البحث في فهارس المكتبة:

وقفة موضوعية مع حديث فاطمة بضعة مني

وقفة مع حديث فاطمة
مجلة الوارث 72

من الأحاديث المهمّة التي تُشكّل مفصلاً بين الحقّ والباطل ما صدر عن النّبيّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حقِّ بضعته الطاهرة فاطمة البتول عليها السلام، وهو الحديث الذي يعرف بحديث البضعة، فكان لزاماً على الباحثين أن يتناولوه بالبحث والتّحقيق.

متن الحديث

حدَّث البخاري، قال: حدّثنا أبو الوليد، حدَّثنا ابن عيينة، عن عمرو ابن دينار، عن ابن مليكة، عن المسور ابن مخرمة، أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «فاطمةٌ بضعةٌ منّي، فمن أغضبها أغضبني». (صحيح البخاري: 4/210، باب مناقب المهاجرين وفضلهم) وعن مسلم، قال: حدثني أبو معمّر إسماعيل بن إبراهيم الهذلي، حدّثنا سفيان، عن عمرو، عن ابن أبي مليكة، عن المسور بن مخرمة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه – وآله – وسلم: «فاطمة بضعة مني، يؤذيني من آذاها». (صحيح مسلم: 7/141)

وعن النّسائي في الفضائل بإسناده إلى المسور بن مخرمة، أنّ النّبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنّ فاطمة بضعة مني، من أغضبها أغضبني». (فضائل الصحابة: 78)

وعن الحاكم في حديث صحّحه بإسناده إلى المسور قال: «فاطمة بضعة مني، يقبضني ما يقبضها، ويبسطني ما يبسطها». (المستدرك على الصحيحين: 3/ 158)

المداليل والأبعاد

إنّ المتن المتقدّم بألفاظه المختلفة كان مورداً لعناية العلماء، وهناك كلمتان فيه جديرتان بالتّناول والتّحليل.

الكلمة الأولى: بضعة مني

قال ابن الأثير: وفي الحديث: (فاطمة بضعة مني)، البضعة بالفتح، القطعة من اللحم، وقد تكسر، أي: إنّها جزء مني، كما أنّ القطعة من اللحم جزء من اللحم). (النهاية في غريب الحديث: 1/ 133)

وقال ابن منظور: (وفلان بضعة من فلان: يذهب به إلى الشّبه، وفي الحديث: (فاطمة بضعة مني) من ذلك). (لسان العرب)

وعليه، فالزّهراء البتول عليها السلام قطعة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إمّا على نحو الاستعارة المبنيّة على التّشبيه، وإمّا نفسه وشبهه على سبيل المجاز المرسل.

وهذا المعنى بنفسه يتضمّن أنه يغضب لغضبها ويرضى لرضاها، فيكون ذكره من التأكيد، لأهمّية المعنى.

ثمّ إنّ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «بضعة مني» يذكرني بقوله صلى الله عليه وآله وسلم في حقّ عليّ عليه السلام في مواطن عديدة: «علي مني، وأنا من علي». (المعجم الكبير للطبراني: 4/ 16)

فعن النّسائي في فضائله بإسناده إلى عمران بن حصين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنّ علياً منّي وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن من بعدي». (فضائل الصحابة: 15)

وبإسناده أيضاً عن حبشيّ بن جنادة السلولي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «علي مني، وأنا منه، ولن يؤدّي عنّي إلاّ أنا أو علي».

وروى مثله ابن أبي شيبة الكوفي، والضّحاك، والنّسائي، والتّرمذي، وابن ماجة، والطّبراني، والسّيوطي، والمتقي الهندي.

وهؤلاء من أعاظم علماء العامة، وكتبهم عندهم محسوبة في الطليعة، وعليه فلا يصغى إلى تضعيف الألباني له، كيف! وقد نقله كلّ هؤلاء وغيرهم في كتبهم من دون تضعيف، بل صرّح التّرمذي بأنه حديث حسن غريب صحيح. (سنن الترمذي: 5/ 300)

ووصفه بالغرابة لا يمنع من صحته وترتيب الأثر عليه، حيث إنّ الغريب عندهم: (ما ينفرد بروايته شخصٌ واحدٌ في أيّ موضعٍ وقع التّفرّد به من السَّند) (تيسير مصطلح الحديث: 28)، كيف! ولو كانت الغرابة مانعة من الصحة والعمل؛ لسقط العمل بأكثر ما في سنن ابن داود، وأفراد الدّارقطني.

ثمّ إنّ الغرابة في خصوص هذا المتن، وأمّا في المتن الأوّل الذي نقله أحمد، فليس فيه غرابة ولا تفرّد.

قال العلامة المناوي: (علي مني وأنا من علي، أي: هو متّصل بي وأنا متّصل به في الاختصاص والمحبة وغيرهما، و(من) هذه تسمّى اتّصالية، من قولهم: فلانٌ كأنه بعضه متّحد به؛ لاختلاطهما). (فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي: 4/ 470)

ثمّ إذا تأملت بعين الإنصاف تذكّرت أنّ الزّوجية الواقعة بين الإمام علي عليه السلام والحوراء الإنسية فاطمة عليها السلام زوجيّة في كلّ الأمور، فارجع البصر كرّتين إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «من آذى علياً فقد آذاني»، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «علي مني، وأنا من علي»، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «فاطمة بضعة مني، يؤذيني ما آذاها»، و«وفاطمة بضعة مني، فمن أغضبها أغضبني»، تتذكر قوله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}. (الذاريات/49)

وهذه تدلّ على أن كلّ ما هو ثابت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ثابت لمن استعملت في حقّهم المنية، إلاّ ما خرج بالدليل «إلاّ أنه لا نبي بعدي».

ويشهد لصحة ذلك في حق فاطمة عليها السلام أنّ أبا لبابة حين ربط نفسه، وحلف ألاّ يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجاءت فاطمة لتحله فأبى من أجل قسمه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنّ فاطمة مضغة مني، فحلته». (شرح سيرة ابن هشام:2/ 288)

الكلمة الثانية: يغضب لغضبها

شرح هذه الكلمة، وبيان مغازيها، والجواهر التي تسبح في طيّاتها، واللآلئ التي تكمن في مكنونها، يتمّ في ضمن النقاط التالية:

النقطة الأولى: إنّ الفقرة المرتبطة بالغضب وردت بأسانيد مختلفة وفي كتب كثيرة، قد تقدّمت الإشارة إلى أربعة أحاديث تنتهي أسانيدها إلى المسور بن مخرمة، ولم تكن بصدد الحصر، وإلاّ فهناك أسانيد أخرى لا تنتهي إليه.

منها: ما رواه الحاكم في مستدركه، قال: (حدثنا أبو العباس محمد ابن يعقوب، ثنا الحسن بن علي بن عفان العامري، وأخبرنا محمد بن علي بن دحيم بالكوفة، ثنا أحمد بن حاتم، عن أبيه، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة عليها السلام: «إنّ الله يغضب لغضبك، ويرضى لرضاك»). (المستدرك على الصحيحين: 3/153)

وعلّق عليه بقوله: هذا حديث صحيح الاسناد، ولم يخرجاه.

ومنها: ما رواه الضحاك بقوله: (حدثنا عبد الله بن سلام المفلوج، وكان من خيار الناس، ثنا حسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، عن عمر بن علي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عن علي ابن الحسين بن علي، عن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لفاطمة عليها السلام: «إنّ الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك»). (الآحاد والمثاني: 5/363)

ومنها ما رواه الطبراني بقوله: (حدّثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، حدثنا عبد الله بن محمد بن سالم القزاز، حدثنا حسين ابن زيد بن علي، عن علي بن عمر بن علي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي بن الحسين، عن الحسين ابن علي عليهما السلام، عن علي بن أبي طالب عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة عليها السلام: «إنّ الله يغضب لغضبك، ويرضى لرضاك»). (المعجم الكبير: 1/108)

وقال الهيثمي: (رواه الطبراني، وإسناده حسن). (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: 9/203)

وحسّن إسناده الصّالحي الشامي أيضا. (سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد: 11/44)

وعليه، فالحديث مستفيض مصحّح من كثير من النقّاد الأخيار، فلا ينبغي التّوقّف والارتياب فيه.

النقطة الثانية: إنّ هذه الفقرة تدل دلالة واضحة على حرمة إيذائها، ووجوب إرضائها، كيف! وفي إيذائها إغضاب للرّب الجبار، وفي إرضائها إرضاء للرحمة الإلهية.

النقطة الثالثة: إنّ هذه الفقرة تدلّ على عصمتها صلوات الله وسلامه عليها؛ إذ لما كان الغضب والرضا لا يصدران من الباري عز وجل إلاّ عن حق، فيستحيل أن يغضب تبارك وتعالى في مورد غضبها صلوات الله عليها، إن لم يكن غضبها في محله. كما أنه لا يصدر منه الرضا عند رضاها إذا لم يكن رضاها عن حقّ، فهي في الغضب والرضا والحزن والسرور خاضعة للحق، وإلاّ لم يترتب على ذلك غضب الرب ورضاه.

ولذا نجد السهيلي المالكي في الروض الأنف يعلق على قصة أبي لبابة المتقدمة بقوله: (فهذا حديث يدل على أن من سبها فقد كفر، ومن صلى عليها فقد صلى على أبيها صلى الله عليه وآله وسلم). (الروض الآنف: 6/328) فهنا مقدّمات:

الأولى: إنّ فاطمة عليها السلام إذا غضبت على شخص يغضب الله عليه، بمقتضى الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

الثانية: إنّ الله تبارك وتعالى إذا غضب على شخص فإنه يهوي؛ بمقتضى قوله: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى}. (طه/81)

الثالثة: إنّ مكان الهوى هو النار، ولذا سُمّيت النار بالهاوية، قال تعالى في سورة القارعة: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ}. (القارعة/9-11)

فينتج ذلك بوضوح: إنّ من يغضب فاطمة عليها السلام يدخل النار الحامية.

وفي المقابل توجد مقدمات أخر:

الأولى: إن فاطمة عليها السلام إذا رضيت على شخص يرضى الله تبارك وتعالى عنه؛ للحديث.

الثانية: إنّ من يرضى الله عنه يدخله في حزبه؛ لقوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. (المجادلة/22) ويشفع فيه ملائكته؛ لقوله: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}. (الأنبياء/28)

الثالثة: إن من يدخل في حزب الله يأمن من الخوف والحزن، كما دلّ على ذلك القرآن الكريم.

جعلنا الله ممن ترضى عليه بضعة المصطفى صلوات الله عليه وعلى آله الأطهار.

* بقلم: الشيخ باقر الفخار

شاهد أيضاً

The Warith Magazine Issue 6

– by: The Department of Islamic Studies and Research of The Holy Shrine of Imam …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *