البحث في فهارس المكتبة:

قالع باب خيبر

مجلة الوارث 73
قالع باب خيبر

خيبر اليهود، من أعظم وأكبر التجمعات اليهودية في الجزيرة العربية، ففيها المال والجاه والرجال، كانت مركزاً للتحركات المناوئة للإسلام، حيث تطبع فيها سياساتهم المعادية لخطّ النبوة والحركة الجديدة الناشئة، ولهذا اعتبرت خيبر مركزاً للفساد والكيد والحقد والضغائن المزمنة، وهي عبارة عن حصون عدة تقع في منطقة خصبة شمال غربي المدينة على بُعدِ يناهز 200 كيلومتر، ويسكنها حوالي أربعة عشر الف نسمة، جلهم من المقاتلة، وفيهم مرحب أعظم قياداتهم وبطلهم المهاب، وكان في عهدته إدارة أعظم حصن ويدعى (القموص) وهو جبل عليه حصن أبي الحقيق اليهودي.

التحرّك باتجاه خيبر

كانت عين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دائماً على هذا الوكر الذي خطط وهيّأ ودعم بالمال معظم المؤامرات ضد الإسلام، خصوصاً حرب الأحزاب التي مُوّلت برجال وأموال يهوديّة، فتحيّن لها الفرص، ولمّا لاحت بشائرها، بدأت حركته باتجاه خيبر بعد أن أقام مع المشركين صلحه في الحديبية، أمضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم شهر ذي الحجة كلّه وأياماً من شهر محرم الحرام من السنة السابعة للهجرة في المدينة، ثمّ قرّر التحرك بألف وأربعمائة نفر من المسلمين تلقاء خيبر مصطحباً زوجته المخلصة أم سلمة.

فلما لاحت له حصونهم ليلاً استوقف جيشه، رفع يديه إلى السماء ودعا ربه: «اللهم ربّ السماوات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، إنّا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شر هذه القرية وشر أهلها وشر ما فيها».

ساء صباح المنذرين

ومع بزوغ شقائق الفجر، نزل النبي بساحتهم وهم مصبحون إلى أعمالهم ومعهم المساحي والمكاتل، فلما نظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: محمد والخميس (الجيش)، فولّوا هاربين إلى حصونهم، وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «الله أكبر خزيت خيبر، إنّا جيش إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين».

أمر النبي بحصارها الذي دام أربعة وعشرين يوماً، قام خلالها بفتح حصونهم حصنا حصناً، إلى أن استعصى على المسلمين حصن القموص وناعم وسلالم والوطيح وحسن المصعب بن معاذ وغنم.

شكّلت هذه الحصون جمعاء مشكلة للجيش الإسلامي، كونها اشتملت على العدد الأكبر من مقاتلي اليهود وهم مجهزون بالسلاح والتدريب الجيد.

فتناوش المسلمون معهم ولم يفلحوا، ذات يوم ومع ارتفاع وتيرة الاضطراب في الجيش الإسلامي إثر رميهم بالنبل والحجارة واستعراضات الحارث شقيق مرحب وتهكماتهما، قرّر النبي أن يبعث بالسرايا، فأرسل في اليوم الأول سرية أولى بقيادة أبي بكر، فرجع قائدها منهزماً ومن معه، ولما كان من الغد بعث بسريته الثانية بقيادة عمر بن الخطاب، فرجع قائدها منهزماً يجبّن أصحابه ويجبّنونه، فساء النبي مشهد ما تناهى إلى سمعه من أنّ بعضهم قد فرّ من المعركة، فقرّر أن يحسم المعركة وقال قولته الشهيرة: «لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كراراً غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه»، «يقاتل جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره».

حامل راية النصر علي عليه السلام

بات كلّ مسلم ليلته مستيقظاً بتشوّق لها ويتمنّاها لنفسه عسى أن يكون المخلّص والفاتح والمخلّد في التاريخ، وما إن جاء الصبح بخيره، سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أين علي؟»، فقالوا: إنّه أرمد، وكان، سلام الله عليه، متوجّعاً من رأسه ومن رمد شديد مؤلم دعاه لأن يعصب عينيه، فأرسل وراءه سلمان وأبا ذر رضوان الله تعالى عليهما، فأتيا به وهو متكئ عليهما لا يبصر طريقه، فلمّا جاء بين يدي رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، قال له: «ما تشتكي يا علي؟»، قال عليه السلام: «رمداً ما أبصر معه وصداعاً برأسي»، فقال صلى الله عليه وآله وسلم له: «اجلس، وضع رأسك على فخذي»، ففعل علي عليه السلام ذلك، فدعا له النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتفل في يده فمسحها على عينيه ورأسه، فانفتحت عيناه وسكن ما كان يجده من الصداع، وقال في دعائه له: «اللهم قه الحر والبرد».

ثمّ إنّه أعطاه الراية البيضاء وهزها وقال له: «خذ الراية وامض بها، فجبرائيل معك، والنصر أمامك، والرعب مبثوث في صدور القوم، واعلم يا علي، أنهم يجدون في كتابهم، إن الذي يدمّر عليهم اسمه إليا، فإذا لقيتهم فقل: أنا علي، فإنهم يخذلون إن شاء الله تعالى». ثم قال له: «امش ولا تلتفت حتى فتح الله عليك».

فسار علي عليه السلام شيئاً ثم توقف ولم يلتفت وراءه، فصرخ: «يا رسول الله، على ماذا أقاتل؟»، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن فعلوا فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابها على الله، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله، فو الله لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير من أن يكون لك حمر النعم».

فخرج أمير المؤمنين بها، يهرول هرولة حتى ركز رايته في رضخ من حجارة تحت الحصن، فاطلع إليه حبر من أحبارهم وقال: من أنت؟ فلما أجاب: أنا علي بن أبي طالب، فقال الحبر: غُلبتم وما أنزل على موسى، فدخل الرعب قلوبهم.

غير أن الغرور ركب رأس الحارث أخي مرحب فخرج في عاديته فانكشف المسلمون وثبت له علي عليه السلام، فتضاربا ضربات، فقتله علي عليه السلام بضربة فقد الحجر والمغفر وفلق رأسه حتى أخذ السيف في الأضراس، ومن شدة الضربة سمعها أهل العسكر وسمعتها أم سلمة في خيمتها.

ما يبكيك يا علي؟

ولمّا خرج البشير إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ علياً عليه السلام دخل الحصن، أقبل صلى الله عليه وآله وسلم فخرج علي عليه السلام يتلقّاه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «بلغني نبأك المشكور، وصنيعك المذكور، قد رضي الله عنك فرضيت أنا عنك»، فبكى علي عليه السلام فقال صلى الله عليه وآله وسلم له: «ما يبكيك يا علي؟»، فقال عليه السلام: «فرحاً بأن الله ورسوله عني راضيان».

كرامات النصر

ساعات عديدة قضاها علي بين يدي نبيه وفي المعركة شكلت دروساً هامة للتاريخ وللدين.

أنظروا في كراماته تروا حقيقة الفتح والنصر العام والخاص.

1. إنّه لمّا استيأست قلوب المسلمين واضطربت نفوسهم بعد يومين من الهزائم وتجبين بعضهم بعضاً وحصول حالات فرار، حصل النصر على يد علي بن أبي طالب عليه السلام.

2. إنّ الضربة العلوية التي شهدها جبريل عليه السلام دعته إلى إطلاق صيحته في السماء وهو يقول: «لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي».

3. إنّ اليد النبوية التي امتدّت إلى عيني وليّه، أبرأته من مرضه فلم يشتكِ منها أبداً.

4. إنّ الله تعالى ورسوله الأعظم أظهرا مرة أخرى في علي قمّة الجهاد في سبيله، ودرساً لمجاهدي العالم في كافة الأزمنة، وتصميماً وعزماً على إحدى الحسنيين، النصر أو الشهادة في سبيل الله.

5. إنّ سؤال علي لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم عن الغاية من قتاله للأعداء، هو مطلب كلّ مجاهد يسير في طريق ذات الشوكة، فيكون على هدى من ربّه وبصيرة من الأهداف التي تضعها القيادات السياسية المجاهدة بدورها، فيكون مطمئناً إلى أنّ دمه لن يذهب هدراً أو في الطريق الخاطئ.

6. إنّه المعلم الأوّل للمسلمين في كيفية الطاعة التامة لله ورسوله وقد تبيّن ذلك من فعلته، إذ لما قال له الرسول: «إمش ولا تلتفت»، وقف علي ولم يلتفت ومن ثم صرخ سائلاً: «يا رسول الله، علام أقاتلهم؟».

7. إنّ سَورة اليهود قُضي عليها باليد العلوية في خيبر وما بعدها، وبإضافة وصيته صلى الله عليه وآله وسلم على فراش مرضه: «أخرجوا اليهود من الحجاز»، يتبين لنا أنّ قتال بني صهيون واجب جار حتى يومنا هذا، وأن دروس علي في خيبر لا زالت جارية أيضاً من وعي علي عليه السلام للقضية، والاستعداد البدني والنفسي والعسكري والعبادي، والطاعة للقيادة، والدقة للتنفيذ والتوكّل، كلها أسباب تؤدي إلى النصر المؤزر باليد الإلهية، التي تفضي إلى قلع باب حصون الدولة الإسرائيلية بيد القدرة الإلهية، كما فعل عليه السلام يوم قلع باب خيبر ورماه إلى الخندق، ولئن كانت خيبر بعيدة عن البحار لجغرافيتها، فإنّ باب حصن الصهاينة، إذا قُلع، فلابدّ أن ترميه أيدي المجاهدين إلى البحر… فسلام الله عليك يا قالع باب خيبر.

* د. سامر شري

شاهد أيضاً

The Warith Magazine Issue 6

– by: The Department of Islamic Studies and Research of The Holy Shrine of Imam …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *