البحث في فهارس المكتبة:

ألا يا أهل العالم إنّ جدي الحسين عليه السلام قتلـــــوه عطشـــاناً

مجلة الوارث - العدد 100*السيد جعفر مرتضى العاملي

إنّ الأئمة عليهم السلام حسب مفهومنا يعلمون الغيب. وفعلهم بالغيب بإرادة إلهية، كما ورد في روايات مستفيضة.

ففي حديث طويل في باب معرفة الأئمة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بالنورانية قال أمير المؤمنين عليه السلام لسلمان المحمدي ولجندب: «…أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ بِإِذْنِ رَبِّي، وَأَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ بِإِذْنِ رَبِّي، وَأَنَا عَالِمٌ بِضَمَائِرِ قُلُوبِكُمْ وَالأَئِمَّةُ مِنْ أَوْلاَدِي عليهم السلام يَعْلَمُونَ وَيَفْعَلُونَ هَذَا إِذَا أَحَبُوا وَأَرَادُوا، لأَنَّا كُلَّنَا وَاحِدٌ أَوَّلُنَا مُحَمَّدٌ وَآخِرُنَا مُحَمَّدٌ وَأَوْسَطُنَا مُحَمَّدٌ وَكُلُنَا مُحَمَّد، فَلاَ تَفَرَّقُوا بَيْنَنَا، وَنَحْنُ إِذَا شِئْنَا شَاءَ اللهُ وَإِذَا كَرِهْنَا كَرِهَ اللهُ الْوَيْلُ كُلُ الْوَيْلِ لِمَنْ أَنْكَرَ فَضْلَنَا وَخُصُوصِيَّتَنَا وَمَا أَعْطَانَا اللهُ رَبُنَا لأَنَّ مَنْ أَنْكَرَ شَيْئاً مِمَّا أَعْطَانَا اللهُ فَقَدْ أَنْكَرَ قُدْرَةَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَشِيَّتَهُ فِينَا…».(بحار الأنوار:٢٦/٦-٧)

يبيّن الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام فضل أهل البيت عليهم السلام وكرامتهم ومنزلتهم عند الله تعالى، والحديث طويل ومعروف، في هذا الخصوص.

بل الروايات الواردة في فضلهم لا تعد ولا تحصى.

ومن ذلك: ما رواه جابر بن عبد الله عن أبي جعفر عليه السّلام أنه قال: «يا جابر عليك بالبيان والمعاني»، قال: فقلت: وما البيان والمعاني؟ فقال عليه السّلام: «أمّا البيان فهو أن تعرف أن الله سبحانه ليس كمثله شي‏ء فتعبده ولا تشرك به شيئا، وأما المعاني فنحن معانيه ونحن جنبه وأمره وحكمه، وكلمته وعلمه وحقّه، وإذا شئنا شاء الله، و يريد الله ما نريده، ونحن المثاني التي أعطى الله نبيّنا، ونحن وجه الله الذي‏ ينقلب في الأرض بين أظهركم، فمن عرفنا فإمامه اليقين، ومن جهلنا فإمامه سجين، ولو شئنا خرقنا الأرض وصعدنا السماء، وإنّ إلينا إياب هذا الخلق، ثم إنّ علينا حسابهم».(مشارق أنوار اليقين في أسرار أمير المؤمنين عليه السلام:٢٨٧)

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «عن الله أروي حديثي إنّ الله يقول: يابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، و بإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد». (التوحيد للصدوق:٣٤٤، باب٥٥، ح١٣)

فقوة العبد ظهور قوة الحق {وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى} فجميع الذوات والصفات والمشيئات والإرادات والآثار والحركات من شؤون ذاته، وظل صفة مشيئته وإرادته، وبروز نوره وتجليه وكل جنوده، ودرجات قدرته، والحق حق والخلق خلق، وهو تعالى ظاهر فيها وهي مرتبة ظهوره.(شرح دعاء السحر:١١٤)

وإنّ سلسلة الوجود ومنازل الغيب ومراحل الشهود من تجليات قدرته تعالى ودرجات بسط سلطنته ومالكيته، ولا ظهور لمقدرة إلاّ مقدرته، ولا إرادة إلاّ إرادته، بل لا وجود إلاّ وجوده، فالعالم كما أنه ظلّ وجوده ومرشحة جوده، ظلّ كمال وجوده.(شرح دعاء السحر:١٢٣)

أمّا السؤال هو: ألم يكن باستطاعة الإمام الحسين عليه السلام أن يعلم حاجته إلى الماء أثناء القتال، وأنّه سوف يموت عطشاناً، وبهذا يستطيع أن يجمع كمية من الماء كافية للمعركة؟! ثم: أليس توفير المياه أثناء القتال يدخل في باب الأخذ بالأسباب؟! والله يقول: {وَأَعِدُوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ}.[الأنعام:٦٠]

الإجابة عن هذا التساؤل بما لي:

أولاً

إنّ الحسين عليه السلام لم يجمع الجيوش للحرب، بل هو قد ترك مكة حتى لا يغتاله شياطين بني أمية، وتهتك به حرمة البلد الحرام، حين بلغه أن ثمة مؤامرة تهدف إلى قتله.

والذين كانوا معه، هم: عياله وأطفاله، وأهل بيته، وبعض الأصحاب، ولم يكن يزيد عدد هؤلاء جميعاً على بضعة عشرات، وإذ به يواجه بألف فارس بقيادة الحر بن يزيد الرياحي يحاصرونه، ويضيقون عليه، ويمنعونه من دخول الكوفة، حتى اضطروه للنزول في كربلاء، ليواجه جيشاً جمعوه لحربه، يصل عدده إلى ثلاثين ألفاً أو أكثر من ذلك.. فهو يعلم بأنه مقتول، لكنه هو لم يسهم في قتل نفسه، بل حاول أن يختار المكان الأقل ضرراً على ألإسلام وأهله.

فلا مورد للحديث عن أن على الحسين عليه السلام أن يبادر إلى الإعداد والاستعداد، وتهيئة الماء لأيام الحصار.. ولا لغير ذلك.

وأما إرسال مسلم بن عقيل إلى الكوفة فلم يكن لجمع الجيوش، بل أرسله لينظر في أمر الناس الذين ألحوا عليه بالقدوم عليهم، وهو إمامهم بنص الرسول صلى الله عليه وآله، وباعتراف معاوية: بأنّ الأمر من بعده للحسن، ثم للحسين، أو يرجع شورى بين المسلمين، الأمر الذي لم يلتزموا به بعد موت معاوية، لعلمهم بأنهم لو أرجعوا الأمر شورى لما اختار الناس سوى الحسين عليه السلام، انصياعاً للآيات القرآنية، وللأحاديث النبوية الواردة في حقه عليه السلام.

ثانياً

إنّ علم الأئمة عليهم السلام للغيب إنّما هو من خلال الاتصال بالرسول صلى الله عليه وآله، الذي يتلقى علمه عن جبرئيل عن الله سبحانه وتعالى، فهو علم مكتسب من مصدر بعينه.. وليس علماً ذاتياً مستقلاً به عن الله تعالى.

وكان يجب عليه صلوات الله وسلامه عليه أن يعامل الناس وفق ما يظهرونه، ويقولونه ويفعلونه، ووفق ما يصل إليه علمه بالاستناد إلى الوسائل المتوفرة له ولسائر الناس، لا بعلم الغيب الذي لا يتيسر لسواه.

على أنّ من الواضح: أنّ ما يصل من الغيب إلى الأنبياء والأوصياء، أو: ما يسعى الأنبياء والأوصياء إلى معرفته من أمور الغيب، هو خصوص ما يتصل بنيلهم المقامات عند الله، ويزيد في معرفتهم، ليزيد في تأكيد كمالاتهم، وتحقيق المزيد من القرب منه تعالى، وكذا إذا كان ذلك يرتبط بمهماتهم الرسالية، وبمسؤولياتهم في الحياة الإنسانية، أما ما عداه مما يرتبط بأمورهم الشخصية وأمور معيشتهم، والصحة والمرض، والبلاء والعافية، وحياة الإمام عليه السلام والنبي صلى الله عليه وآله وموته، وما لا أثر له في حفظ الدين وأهله بصورة مباشرة، وما لا رابط له برعاية ما يجب عليهم رعايته في إيصال المخلوقات إلى الله، وما يوجب كمالهم.. أما ما عدا ذلك، فإنهم لا يديرون له بالاً، وليس له أي أهمية في حساباتهم.

ثالثاً

لقد سجّل لنا التاريخ أنّه عليه السلام قد أرسل أخاه العباس ليأتيه بالماء، فاستشهد قبل أن يتمكن من إيصاله إليه.. وفي الروايات: أنّه عليه السلام قد حاول حفر بعض الآبار ليستنبط منها الماء، فتصدى له أعداؤه ومنعوه من ذلك.

رابعاً

إنّ من يعتقد بأنّ القدر هو الحاكم على العباد، ليس له أن يورد هذا السؤال، إذ لا يمكن تحقق مفهوم الانتحار، فإنّه إذا علم بأنّه سيقتل عطشاً، ويعلم أنّ قضاء الله لا يُردُ، فما فائدة ادِّخار الماء، إذا كان القضاء قد سبق بعدم الفائدة منه؟! ولن يغير هذا القضاء شيئاً؟!

خامساً

مع غض النظر عن جميع ما قدمناه، مع أنّه هو الحق الذي لا محيد عنه، ولا مناص منه، فإنّ إصرار السائل على قوله يدعونا إلى مجاراته في النقاش، ومطالبته بالدليل على أن النبي صلى الله عليه وآله قد أعلم الحسين عليه السلام باللحظة نفسها التي يقتل فيها، فإنّ الله تعالى، يقول: إنّه {…فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ…}.[الجن:٢٦-٢٧]

ولكن من قال: إنّ ذلك يشمل إعلام رسله بساعات وفياتهم، لاسيما مع قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.[لقمان:٣٤]

فلعل هذه الآية قد قيدت الآية التي سبقتها، وحصرتها بالغيوب التي لا تشمل موضوع الآجال، ولحظاتها، أو أنّها خصصتها بحالات العلم الإجمالي دون التفصيلي الدقيق.

سادساً

لنفترض أنّ الحسين عليه السلام، قد علم أنّه سيقتل عطشاناً في كربلاء، ولكن ما عساه يفعل، وقد ألجئ إلى الحضور إليها من قبل أعدائه، لاسيما وأنه قد جاء إليها مع عياله، ولم يجمع جيشاً، ولم يكن بصدد خوض حرب مع أحد؟!

والحمد لله، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين

شاهد أيضاً

صدر العدد الجديد من نشرة اضاءات فكرية

#نشرة_اضاءات_فكرية العدد الرابع لتحميل العدد اضغط على الرابط التالي: https://online.fliphtml5.com/fsffe/zzry/#p=1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *