البحث في فهارس المكتبة:

أهل البيت عليهم السلام هم الأنوار الالهية

*الدكتور محمود البستاني

جاء في الزيارة الجامعة الكبيرة: «وَاجْتَبَاكُمْ بِقُدْرَتِهِ وَأَعَزَّكُمْ بِهُدَاهُ وَخَصَّكُمْ بِبُرْهَانِهِ وَانْتَجَبَكُمْ لِنُورهِ».
فالبرهان هنا يعني إلقاء الشيء بنحو يقطع به دليل الخصم، وهذا يعني أنّ الله تعالى قد خصّ الأئمة عليهم السلام بموقعية لا يتردد اثنان في مشروعية الموقع المذكور، وهو الإمامة أو الخلافة، أو الوصاية بعد رسول الله صلَّى الله عليه وآله، وهذا ما يتجلى في ما نقله المؤرخون والرواة من مناظراتهم عليهم السلام، فقد جسدت مبدأ الجدال بالتي هي أحسن بأسمى صوره.
ولا شك أنّ أهل البيت عليهم السلام وهم ربيبو الوحي فإنَّ منطلقهم أولاً وآخراً هو وحي الله سبحانه وتعالى فهم عاملون بقوله تعالى: {ادْعُ إِلى‏ سَبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتي‏ هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدين}.[النحل:125] إذاً فالمنطلق الأساس في كلامهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين هو الدعوة الإلهية إلى نبيّه الأعظم صلَّى الله عليه وآله وإلى كلِّ من أراد أنْ ينتهج نهجه صلَّى الله عليه وآله وهم أهل البيت عليهم السلام وهم أولى بما فيه.
فعليه وجدناهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، يجادلون الناس بالتي هي أحسن يواجهون كلَّ إنسان مهما كانت عقيدته بالأُسلوب الحسن وبالدفع بالتي هي أحسن على قاعدة قوله تعالى: {…ادْفَعْ بِالَّتي‏ هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَميم}.[فصلت:34] الكلام في هذا يطول لأَنَّ أئمتنا صلوات الله وسلامه عليهم كثيراً ما واجهوا حركات الانحراف سواء على المستوى الفكري أو على المستوى العملي ونأتي في هذه العجالة بشاهد يرويه علامة من علماء العامة وهو المبرد في كتاب الكامل وهو من أئمة الأدب عند أهل السنة يروي أَنَّ شامياً من أهل الشام رأى الإمام الحسن عليه السلام راكباً فجعل يلعنه والإمام الحسن عليه السلام لا يردّ فلمّا فرغ أقبل الإمام الحسن عليه السلام فسلّم عليه وضحك وقال «يا أيّها الشيخ أظنك غريباً ولعلّك شبهت» والإمام خير من يعرف الناس وأنساب الناس، إلاّ أنّه لا يريد أنْ يقول لهذا الشيخ إنَّك تقصدني، انظر إلى الأدب الرفيع عند الإمام كيف يبدأ معه أظنّك شبهت أنت تقصد شخصاً آخر لك عنده غرامة أو لك معه عداوة، ثم يبدأ الإمام مباشرة بقوله عليه السلام: «لَوِ اسْتَعْتَبْتَنَا أَعْتَبْنَاكَ»، أي: إنْ كان لك عتب علينا نحن حاضرون، «وَلَوْ سَأَلْتَنَا أَعْطَيْنَاكَ»، أي إذا كان لك حاجة نقضيها لك، «وَلَوْ اسْتَرْشَدْتَنَا أَرْشَدْنَاكَ، وَلَوْ اسْتَحْمَلْتَنَا حَمَّلْنَاكَ، وَإِنْ كُنْتَ جَائِعاً أَشْبَعْنَاكَ، وَإِنْ كُنْتَ عُرْيَاناً كَسَوْنَاكَ، وَإِنْ كُنْتَ مُحْتَاجاً أَغْنَيْنَاكَ، وَإِنْ كُنْتَ طَرِيداً آوَيْنَاكَ، وَإِنْ كَانَ لَكَ حَاجَةٌ قَضَيْنَاهَا لَك».
فتهيأ هذا الرجل وتهيب من هذا الخلق العظيم فوجد الإمام أنّ الوقت صار مناسباً ليبدأ معه حركة جديدة فقال له الإمام عليه السلام: «فَلَوْ حَرَّكْتَ رَحْلَكَ إِلَيْنَا وَكُنْتَ ضَيْفَنَا إِلَى وَقْتِ ارْتِحَالِكَ كَانَ أَعْوَدَ عَلَيْكَ»، أي أكثر نفعاً لك، «لأَنَّ لَنَا مَوْضِعاً رَحْباً وَجَاهاً عَرِيضاً وَمَالاً كَبِيراً».
هذا الخلق العظيم أمام من يشتم وهو وقف موقف العداء فكيف بمن جاء يحاور ويجادل ويدّعي أَنَّه من أهل الفكر لأبي العوجاء أو ابن المقفع نجد الأئمة عليهم أفضل الصلاة والسلام يواجهونهم بشكل لطيف وحسن جداً.
فاحتجاجاتهم عليهم السلام كانت ضمن آلية متكاملة لعلمهم بالناس ومعرفتهم بأحوال أصناف البشر، حيث وردت في قضية المفضل بن عمر، حينما حصلت بينه وبين ابن أبي العوجاء الزنديق الدهري الذي ادّعى عدم وجود الربِّ والخالق، فكان جواب ذلك الرجل على زندقته وعلى اعوجاجه اسماً ومسماً نجده يردّ على المفضل (ما هكذا كان يواجهنا جعفر بن محمّد) عليهم السلام.
كذلك دخول الشامي يقال إنّ الرجل استضافه الحسن بن عليٍّ عليهما السلام فدخل هو وأبوه وأُمُّه أبغض الناس إليه، وخرج من عنده عليه السلام مهتدياً وعليٌّ والحسن والزهراء عليهم السلام أحبّ الناس إليه.

انتجبكم لنوره
إنّ الانتجاب هو انتجاب ما هو نفيس بالقياس إلى سواه، والنفيس هو ما يبلغ درجته العالية بالقياس إلى الدرجات العادية لسواه.
والسؤال هو: ملاحظة مصطلح (النور) حيث قال النصّ «وانتجبكم لنوره» فماذا تعني كلمة (النور)؟
من الحقائق التي تنبغي ملاحظتها أنَّ (النور) في اللغة الشرعية طالما يستخدم بمثابة (رمز) والرمز كما هو معروف في اللغة الفنية، التعبير اللامحدود بعبارة محدودة، أو الإشارة إلى دلالات غير محدودة من خلال الكلمة المتقدمة.
ولعلّ القرآن الكريم هو النصّ الشرعي الذي يستخدم عبارة (النور) في مواقع متنوعة منه كقوله تعالى: {للهُ نُورُ السَّماواتِ وَالأَرْض}.[النور:135] وقوله تعالى {…يُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّور.}.[الحديد:9] ولعلّ سائلاً يسأل: ما هي الدلالات غير المحدودة لرمز (النور)؟
الجواب: إنّ (النور) يتداعى بالذهن إلى عشرات بل مئات الدلالات الإيجابية بدءاً من المفهومات العامة مثل الإيمان، الإسلام، الهدى، الخير …الخ.
وانتهاء بمصاديق متنوعة لما هو إيجابي، مثل الرحمة الشفقة الحنان، الحب، الصدق، الأمانة، وهذا يعني أَنَّ الذهن بمقدوره أنْ يشخِّص مئات الدلالات المتضمنة لما هو خير.
وإذا عدنا إلى العبارة القائلة عن الأئمة عليهم السلام بأنَّ الله تعالى قد انتجبهم لنوره، حينئذٍ بمقدورنا أنْ نستخلص دلالات متنوعة، تأتي في مقدمتها عبارة (الانتجاب) التي تعني النفيس من الأشياء وهو يدلُّ على أَنَّ الله تعالى قد انتجب أنفس الشخصيات ليجسدوا السمات أو المبادئ التي رسمها الله لعباده حتى يلتزموا بها في غمرة سلوكهم العبادي الذي خلق الله تعالى البشرية من أجل ممارسته.
فعندما ينتجب تعالى الأئمة عليهم السلام لنوره فهذا يعني أَنَّ أغلى الشخصيات المجسدة لما يريده تعالى من المبادئ تتمثل في الأئمة عليهم السلام.
وما دام الله تعالى هو نور السماوات والأرض، فإنَّ الشخصيات التي تستطيع أنْ تعرف النور المذكور من جانبه وكذلك تستطيع أنْ تجسد مبادئ النور، أي الإيمان في أرفع مراحله.
فذلك جميعاً بمقدور الأئمة عليهم السلام أنْ يضطلعوا بالتعريف به من جانب وبالإيمان به من جانب ثانٍ، وتوصيله إلى الآخرين من جانب ثالث.
إذن يتعين علينا أنْ ندقّق النظر جيداً في دلالة ما يعنيه الرمز (انتجبكم لنوره) والأهم من ذلك هو أنْ نعتبر وندقق في مضمون هذه الزيارات، فمنها: رمز (النور) الذي يعني في أحد مصاديقه المبادئ التي رسمها الله تعالى للبشرية وطلب منا أنْ نلتزم بها، ومن ثمَّ أحد مصاديقه المتمثلة في شخوص الأئمة عليهم السلام المجسدين لمبادئ الله تعالى إنّه ولي التوفيق.

شاهد أيضاً

صدر العدد الجديد من نشرة اضاءات فكرية

#نشرة_اضاءات_فكرية العدد الرابع لتحميل العدد اضغط على الرابط التالي: https://online.fliphtml5.com/fsffe/zzry/#p=1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *