البحث في فهارس المكتبة:

منارة العبد

تراثيات
منارة العبد

وهي مِن المآذن الجميلة المميَّزة التي كانت تزيّن الحائر الحسيني الشريف ، كان موقعها في الزاوية الشماليّة الشرقيّة من الصحن الحسيني الشريف على يمين الداخل من باب الشهداء ، ولجدار الصحن أقرب من جدار الرواق (1) .وكانت مئذنة جبارة أعظم وأفخم من كل المآذن الموجودة في العتبات المقدسة من كربلاء والنجف والكاظمية وسامراء ، ومن حيث الفخامة في الأبنية التاريخية كانت هي الثانية في العراق من بعد (ملوية) المتوكل وجامعه في سامراء . فكان يبلغ قطر قاعدتها عشرين مترا تقريبا ، وارتفاعها أربعين مترا ، مكسوة بالفسيفساء والكاشاني الاثاري البديع الصنع (2).

يعود تاريخ منارة العبد الى سنة 767 ه‍ عندما بناها الخواجه مرجان (مشيد جامع مرجان والمدرسة المرجانية في وسط شارع الرشيد في بغداد)، والذي كان واليا على بغداد من قبل السلطان الثاني من سلاطين الدولة الجلائرية الايلخانية ، اويس الجلائري الذي كانت عاصمة ملكه تبريز ، فتمرد عليه مرجان ورفع راية العصيان ضده واستبد ببغداد ، حتى اضطر السلطان أويس أن يسير إليه بجيش من تبريز ليقضي على حركته ، ولما علم أنصاره بقدوم السلطان أويس لمحاربته تفرقوا عنه ، ودخل اويس الى بغداد دخولا هائلا وكان يوما مشهودا (3) ، وفرَّ مرجان من بغداد ولاذ بقبر ابي عبد الله الحسين ( عليه السلام ) ، وكان حين استجار بالضريح المقدس ، قد نذر أن يبني مئذنة خاصة في الصحن الحسيني الشريف إذا خرج ناجيا من الغمة(4) . ففعل ذلك وبنى حولها مسجدا خاصا ، ثم أجرى لهما من أملاكه في كربلاء وبغداد وعين التمر والرحالية أوقافا يصرف واردها على المسجد والمئذنة ، وعندما علم أويس بما جرى للعبد أحضره فأكرمه وعفا عنه ، وأعاده والياً على العراق لِما قام به من خدمات جليلة في الحائر الشريف (5) واستمر حاكماً ببغداد إلى أن ادركه الموت سنة 793هـ/1374م .

تراثيات
منارة العبد

لقد كانت مئذنة العبد بنقوشها البديعة تُشكِّل آيةً في الفنِّ المعماريِّ ، ومعلما اثريا رائعا حتى ان الكثير من المستشرقين والرحالة الذين زاروا كربلاء قد ذكروا هذه المنارة عند وصفهم المشهد الحسيني الشريف ومنهم خان اديب الملك ( المراغي ) حين زار كربلاء عام (1273هـ = 1857 م ) ، وحين زار الرسام الانكليزي روبرت كلايف كربلاء عام ( 1862 م ) ورسم الروضة الحسينية المقدسة كان من اوضح المعالم الجمالية في لوحته منارة العبد وهي مزينة بالقاشاني ذات النقوش البارزة وهي دائرية الشكل ذات قاعدة سداسية الاضلاع (6) ، وفي عام 1890 م زار كربلاء رئيس بعثة بنسلفانيا للتنقيب عن الاثار القديمة في نفّر ( منطقة عفج) جون بيترز ووصف منارة العبد بأنها مزينة بالكاشي البديع.

بقيت مئذنة العبد حوالي ستة قرون قائمة من يوم تشييدها سنة 767 ه‍ مزدانة بتشكيلاتها الزخرفية الرائعة ومكسوة بالقاشاني الملون والمزخرف ، وبسبب تقادم الزمن جرى على المئذنة عدة اصلاحات ابرزها على يد الشاه طهماسب الصفوي في سنة 982 ه‍ من ضمن ما قام به من الإصلاحات والتعمير للحائر المقدس في تلك السنة وتوسيع الصحن من الجهة الشمالية منه وكذلك الاصلاحات التي جرت عليها بعد تضرر الجزء العلوي من المئذنة بأحداث واقعة المناخور ( المعروفة بواقعة غدير دم ) ، جراء اطلاق جنود الحاكم العثماني نجيب باشا الرصاص واصابتهم اعلى المئذنة ، فقد وصفها عالم الاثار الانكليزي لوفتس عندما زار كربلاء عام 1270 ه = 1854 م بأن احدى المنارات الثلاث تبدو متداعية (7) وتوشك على السقوط على اثر احتلال جنود نجيب باشا للمدينة ، وكانت قد تعرضت المساجد الى الخراب والتدمير بصورة خطيرة ، فظلت آثار القنابل والشظايا واضحة للعيان في قبابها . وفي عام 1308 هـ أوعز البلاط العثماني بتصليح المئذنة المذكورة فأصلحت (8) ، وبقيت هذه المنارة عبر كل تلك السنين والاعوام وهي شامخة مثلما وصفها المستشرق الهولندي هونيكمان عندما زار كربلاء عام 1935م .

تراثيات
منارة العبد

وفي اواخر عام 1354 هـ = 1936 م قام متصرف لواء كربلاء صالح جبر بأمر من رئيس الوزراء ياسين الهاشمي بهدم مئذنة العبد الاثرية عن جهل وعدم تقدير قيمتها التاريخية بحجة ميلانها وتصدعها ، وتعزو المصادر سبب الهدم الى قرار سياسي اتخذه رئيس الوزراء استنادا للتقارير التي استلمتها مديرية الاوقاف العامة ، ويقال ايضا الى انه عمد الى ذلك بغرض الاستيلاء على عائدات الاوقاف الكثيرة التي تركها مرجان للمئذنة وللمدينة سوية (9) ، ومن الجدير بالذكر انه حينما اقدموا على هدم منارة العبد عثروا على نقود نحاسية قديمة ترجع الى العهد الجلائري والصفوي وقد اودعت في دار الاثار القديمة ببغداد (10).

وبإزالة منارة العبد خسر فن الرِّيازة والعمران الاسلامي اثرا تاريخيا رائعا ، واليك حسرات الدكتور عبد الجواد الكليدار آل طعمة وحزنه اثر هدم هذا المعلم التاريخي وهذا بعض كلامه ” تركت مأذنة العبد فراغا هائلا في الحائر المقدس وحسرة دائمية في قلوب محبي الفن والتاريخ كما وكان هدمها نظير ما جرى للحائر في الادوار الماضية على يد الغلاة والوهابيين فبكتها القلوب ورثتها الشعراء ” ( 11 ).

هذا وقد استنكر اهالي المدينة المقدسة وفي مقدمتهم العلماء الاعلام منهم السيد هادي الخراساني(12) ، وأرخ هدمها الخطيب الشاعر الشيخ عبد الكريم النايف، وممن نظم في ذلك العلامة الجليل محمد السماوي في ارجوزته ” مجالي اللطف بأرض الطف ” ومن ذلك ما جاء عن ادوار تشييدها في عام 767هـ وتعميرها في عام 982هـ، وهدمها في عام 1354 هـ ورثاها السيد علي الهاشمي الغريفي بقوله:

آل الجلائر عبدهم ***** مرجان مُذ وَليَ الإمارة
قد شاد في بغداد مسـ ***** ـجده لدى سوق التجارة
وبنى لدى صحن الحسيـ ***** ـن لحبه اعلى مناره
تالله ان بهدمها ***** للدين للتقوى خساره
والعبدُ أرخ : ناحبا ***** الحر تكفيه الإشاره
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) السيد سلمان هادي آل طعمة، تراث كربلاء ص55.
(2) د. عبد الجواد الكليدار ، تاريخ كربلاء وحائر الحسين (ع) ص 233.
(3) ابن كثير، البداية والنهاية ج14 ص 364.
(4) الاستاذ جعفر الخليلي ، موسوعة العتبات المقدسة، قسم كربلاء ص 266.
(5) د. عبد الجواد الكليدار ، تاريخ كربلاء وحائر الحسين (ع) ص 233.
(6) د. الشيخ محمد صادق الكرباسي ، دائرة المعارف الحسينية، تاريخ المراقد ج3 ص 62.
(7) السيد محمد حسن الكليدار، مدينة الحسين ج4 ص 335.
(8) السيد سلمان هادي آل طعمة، تراث كربلاء ص56.
(9) د. الشيخ محمد صادق الكرباسي، دائرة المعارف الحسينية، تاريخ المراقد ج2 ص 304.
(10) السيد محمد حسن الكليدار، مدينة الحسين ج1 ص 36.
(11) د. عبد الجواد الكليدار، تاريخ كربلاء وحائر الحسين (ع) ص 241.
(12) للتفصيل راجع : د. الشيخ محمد صادق الكرباسي، دائرة المعارف الحسينية ، تاريخ المراقد ج2، ج3.

إعداد
شعبة التراث الثقافي والديني

شاهد أيضاً

The Warith Magazine Issue 6

– by: The Department of Islamic Studies and Research of The Holy Shrine of Imam …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *