البحث في فهارس المكتبة:

فَـــضْـــلُ المجاهدين على القاعدين

مجلة الوارث - العدد 98*الاستاذ مظاهري

هناك صفات مهمة ينبغي للمجاهد في سبيل الله التحلّي بها، فيستدل من هذه الصفات أهمّية الجهاد والموارد التي يجب على المجاهد مراعاة ذلك لينطبق عليه كلمة المجاهد، لأنّ الجهاد في سبيل الله تعالى هو الطريق المؤدّي إلى الشهادة، والشهادة باب من أبواب الجنة.

تفضيل المجاهد على القاعد

صحيحٌ أن الله تعالى فضّل المجاهدين في سبيله على القاعدين بقوله: {وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}.[النساء:٩٥]

لكن ليس كل من حمل السلاح وانطلق لقتال العدو نال بركة الجهاد وحصل على آثاره الطبيّة.

فكثيرون هم الذين قاتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله ولكن عندما وافته المنيّة انقلبوا على أعقابهم خاسرين، قال تعالى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ}.[المائدة:٢١]

بل للجهاد في سبيل الله تعالى شروطٌ أساسية بمراعاتها ينال المجاهد ما وعده الله من الفضل العظيم، والزلفى والمغفرة، وجنة النعيم قال تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ}.[القلم:٣٤]

من أهم الشروط التي تنطبق على الشخص ليكون مجاهداً ما يلي:

أوّلاً: القتال تحت راية الحق

الجهاد في سبيل الله واجبٌ إلهي لا يجوز أن يشرّع فيه الإنسان من نفسه بالرجوع إلى أهوائه.

بل عليه أن يتّبع أوامر الشريعة فيما تأمر به وتنهى عنه في هذا المجال.

وأوّل ما تأمر به هذه الشريعة الغرّاء أن يكون جهاد المرء مرتكزاً على أساس ديني، بمعنى أن يكون قتاله لأجل الأهداف الإلهية، وتحت راية الحق، وبقيادة المعصوم عليه السلام أو نائبه بالحق الذي ينوب عنه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}.[النساء:٥٩]

لأنّ الله عز وجل لن يقبل عمل من يوالي عدوّه ويقاتل تحت رايته {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء}.[الممتحنة:١]

بل ستكون أعماله باطلة ولا قيمة لها أيضاً قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}.[محمد:٣٣]

ثانياً: طاعة القائد

من أهمّ الشروط التي يجب على المجاهد في سبيل الله الالتزام بها هو طاعة القائد والقيادة للجيش.

وهي من الواجبات الشرعية التي أكّد عليها الإسلام بشدة، لأنّ حفظ النظام وديمومته ونجاح الأعمال شرطها الأساسي طاعة القائد، قال تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}.[الأنفال:٤٦]

أما التمرّد على القيادة الشرعية وعدم طاعتها فيدلّ في الواقع على عبادة النفس والتعصب للذات وهو ينافي مبدأ التسليم للحق والطاعة له.

إنّ أول عملٍ ركّز عليه الإسلام في بداية ظهوره هو الطاعة لله ورسوله، {وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}.[النور:٥٢]

فالفوز في الدنيا والآخرة مرهونٌ بطاعة الله وطاعة رسوله والأئمة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}.[النساء:٥٩]

لذا عيّن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله الأئمة عليهم السلام قادةً لأُمّته بعد وفاته، والإمام الثاني عشر الحجّة المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف أمر الناس بالرجوع إلى رواة الأحاديث وجعلهم حجته على الناس، كما جاء في التوقيع المقدّس عن إمامنا المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف حيث قال لسائلٍ أشكل عليه بعض المسائل: «…وَأَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وَأَنَا حُجَّةُ اللهِ عَلَيْهِم…».(كمال الدين وتمام النعمة:٢/٤٨٤)

واستناداً إلى ما تقدّم فإنّ عدم الطاعة للإمام المعصوم عليه السلام يعني الاستخفاف الصريح بحكم الله تعالى، لأنّ الرادّ على المعصوم كالرادّ على حكم الرسول صلى الله عليه وآله والرادّ على حكمهم كالرادّ على الله قال تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ}.[النساء:٨٠]

ومما يجدر الانتباه إليه هنا أيضاً هو وجوب طاعة القادة المعيّنين من قبل الإمام المعصوم عليه السلام، ومجريات التاريخ تحكي بوضوح عن كثيرٍ من الهزائم والويلات التي مُني بها المسلمون والتي كان السبب الأساسي فيها عصيان أوامر القيادة الإسلامية، وهذا ما تدعمه وتؤيده النصوص القرآنية والأحاديث الشريفة.

فقصة معركة أحد خير شاهدٍ على ذلك، كما ويروي التاريخ لنا حادثة مهمة جداً ومعبّرة تحكي عن فداحة التخلّف عن أوامر القيادة لما له من عواقب وخيمة جداً، حين أعدّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله جيشاً قبل وفاته وعيّن قائداً عليه لم يتجاوز من العمر أكثر من عشرين سنة، وكان ذلك سبباً عند بعض المسلمين للتخلف والعصيان، فعلم رسول الله صلى الله عليه وآله بالأمر وقال جملته المشهورة: «لعن الله من تخلف عن جيش أسامة».(الاحتجاج:١/٣٠٣)

ثالثاً: التقوى

مجلة الوارث - العدد 98من يخشَ الله تعالى ويتّقه حق تقاته يجتنب ما حرّمه ونهى عنه، ويؤدّ ما فرضه وأوجبه.

وهذا هو الإنسان المتّقي الذي يخاف الله ويحرص على عدم معصيته ومخالفة أمره، فتكون بذلك أعماله مورد قبول الحق ورضاه، قال تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}.[النور:٥٢]

أما الأعمال التي لا ترتكز على التقوى فتشبه البناء القائم على حافة جرفٍ هارٍ والذي لن يصمد طويلاً أمام التهديد وسرعان ما سوف يهوي بأهله، قال تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.[التوبة:١٠٩]

فالتقوى تعدّ شرطاً أساسياً لأنّ الله لا يطاع من حيث يعصى.

وإذا لم يحافظ المجاهد في سبيل الله على حدود الله عند أدائه لواجباته فلن يتقبل الله جهاده، ويُخشى أن يسلب منه فضل الجهاد والتوفيق إليه، قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}.[المائدة:٢٧]

لأنّ المجاهد إذا لم يكن مراعياً لحدود الله وملتزماً بشريعته فسيكون عرضةً لفتن النفس الأمّارة بالسوء والأهواء المضلّة، ما سينعكس سلباً على عمله وجهاده حتماً، قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.[القصص:٥٠]

فساحات الجهاد يجب أن تكون طاهرة وخالية من المعاصي وبذورها المكدّرة وآثارها الهدّامة التي تحول دون نشوء جبهة مباركة نورانية وقوية، لتكون أرضاً خصبة لفيوضات الحق وكراماته ونعمه المطلقة ومحلاً لعروج الإنسان وارتقائه.

رابعاً: الإخلاص

من الصفات المهمة التي ينبغي للمجاهد التحلي بها هو الإخلاص، لأنها منشأ الهداية والتوفيق.

فالله سبحانه وتعالى أمر الناس بالعبادة لقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ}.[الإسراء:٢٣]

‏وجعلها شرطاً أساسياً للارتباط به وتحقق العبودية والوصول إلى مقامها الشامخ، ولكنه لم يأمر بأي عبادة بل أمر عز وجل بالعبادة الخالصة له التي لا يشاركه فيها أحدٌ أبداً، بقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}.[البينة:٥]

وعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله قال: «طُوبَى لِمَنْ أَخْلَصَ للهِ الْعِبَادَةَ وَالدُّعَاءَ وَلَمْ يَشْغَلْ قَلْبَهُ بِمَا تَرَى عَيْنَاه».(الكافي الشريف:٢/١٦)‏

فالإخلاص هو روح العبودية لله وجوهرها، وحقيقته تخليص النية والدافع نحو العمل من كل شيء ما عدا الله سبحانه وتعالى.

فالمخلص هو الذي لا يطلب من وراء أي عملٍ يقوم به سوى رضى الله تعالى، ولا يكون له مقصدٌ أو دافعٌ سوى التقرّب إليه عزّ وجل.

إن الأعمال مرهونةٌ بالنيات وإذا لم تكن النوايا خالصة فهذا يعني أنه يشوبها الشرك، والله تعالى لا يغفر أن يشرك به، قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ}.[النساء:٤٨]

ولا يقبل إلا ما كان له خالصاً كما في الحديث القدسي المروي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «يقول الله عزّ وجل: أَنَا خَيْرُ شَرِيكٍ مَنْ أَشْرَكَ مَعِي غَيْرِي فِي عَمَلِي لَمْ أَقْبَلْ إِلاَّ مَا كَانَ لِي خَالِصاً».(فقه الإمام الرضا عليه السلام:٣٨١.الكافي الشريف:٢/٢٩٥)

وعليه فكل عملٍ لا يكون خالصاً لوجه الله تعالى فهو شرك، والشرك ظلمٌ عظيم، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.[لقمان:١٣]

وقال تعالى {وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.[الصف:٧]

والمجاهد في سبيل الله عند أدائه لواجباته وتكاليفه الشرعيّة هو في حالة عبادة، ولأعماله بعدٌ إلهي يمكن أن يرفعه إلى أعلى عليّين ويقرّبه من الحق نجيّاً في حال اتّسمت أعماله ونواياه بالإخلاص.

أمّا إذا لم تكن النوايا خالصةً ولم يكن الدافع الأساسي من وراء الجهاد رضا الله وأداء التكليف الشرعي فلن تكون الأعمال مقبولةً وبالتالي لن ينال الأجر والثواب الذي يستحقّه.

لأنّ الذاهب إلى ميادين الجهاد لن يصدق عليه وصف المجاهد في سبيل الله ما لم تكن هجرته إلى الله، وما لم يكن دافعه الأساسي وهدفه النهائي هو الحق سبحانه وتعالى لا غير، قال تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}.[الكهف:١١٠]

خامساً: الصبر

مجلة الوارث - العدد 98الصبر من صفات المجاهد الأساسية ومن دونه لن يتمكّن من مواجهة الصعاب وتحمّل المشاكل التي تنتظره.

لذا أمر الله تعالى به عباده المؤمنين بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}.[البقرة:١٥٣]

وجعله أساس الإيمان ودعامته الرئيسة كما روي عن الإمام زين العابدين عليه السلام أنه قال: «قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: الصَّبْرُ مِنَ الإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ وَلاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ صَبْرَ لَهُ».(صحيفة الإمام الرضا عليه السلام:٨١. الكافي الشريف:٢/٨٧)

والصّبر لا يعني تحمّل الشقاء وقبول الذلة والاستسلام للعوامل الخارجية، بل على العكس، الصبر يعني القدرة على التحمل والمقاومة والثبات أمام جميع المشاكل والصمود أمام الحوادث المرّة وعدم الانهيار وترك الجزع والفزع.

وتاريخ العظماء يؤكد أن من أهمّ عوامل انتصارهم هو صبرهم واستقامتهم، أما الفاقدون لهذه الصفة فسرعان ما ينهارون وينهزمون.

ومن الخصائص الأساسية للصبر، أن بقية الفضائل متوقفةٌ عليها لأنّها سندها ورصيدها الأساسي، والأهم من ذلك أنّ الله تعالى يحب الصابرين {وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}.[آل عمران:١٤٦]

وهو معهم قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}؛ فمن صبر على الجهاد ولم يشكُ ولم يجزع واستقبل البلايا بصبرٍ وسكينة، فنصيبه أن الله تعالى معه وسوف يؤيّده بالنّصر.

ويكفي للدلالة على مدى أهمية الصبر بالنسبة للمجاهد ما ذكره القرآن الكريم حين أمر الله النبي بالقتال وتحريض المؤمنين عليه، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ}.[الأنفال:٧٥]

فالآية الكريمة تشير إلى ما يشبه المعجزة التي يمكن أن تحصل مع المؤمنين المجاهدين في الحرب إذا ما التزموا الصبر وكانوا من المتصبّرين في ميادين القتال.

فقد وعدهم الله تعالى بأن يغلب الرجل منهم عشرةً من الكفار في حال كانوا من الصابرين، بل حتى لو كانوا عشرة أضعاف عددهم.

وممّا يسترعي الانتباه أنّ أغلب المعارك التي جرت بين المسلمين وأعدائهم كان فيها ميزان القوى لصالح العدو، وكان المسلمون قلّة غالباً.

والسبب الرئيس الذي يقف وراء انتصار المسلمين القلة في مثل هذه المعارك هو صبرهم وتجلدهم أمام عدو يفوقهم عدداً وعدّة، وتمتّعهم بروحية الثّبات والاستقامة التي هي ثمرة شجرة الإيمان.

سادساً: التوكل

يجب أن يكون أقوى وأمضى أسلحة المجاهد هو التوكّل على الله سبحانه وتعالى، لأنّه يؤمن بأن الحول والقوة بيد الله، وأنه المؤثر الحقيقي والوحيد في هذا العالم، وأن الأمور كلّها في الحقيقة ترجع إليه، وليس على الإنسان الصادق في إيمانه سوى أن يعبد الله فيما أمره وأن يتوكّل عليه، فلا يعتمد على نفسه إطلاقاً ولا يكون همّه نتائج أعماله بل جلّ اهتمامه يكون منصبّاً على طاعة ربه وأداء تكليفه بصدق وإخلاص، قال تعالى: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}.[هود:١٢٣]

أما النتائج فأمرها موكولٌ إلى الله تعالى بقوله: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللهِ}.[آل عمران:١٢٦]

فالتوكل هو الاعتماد على الله تعالى في جميع الأُمور، والاعتقاد بأنه مسبب الأسباب والمتسلّط عليها، وأن بإرادته ومشيئته تتحقّق هذه الأسباب.

وهذا لا يعني ترك العمل والجد والاجتهاد والإعداد وتهيئة السلاح والمعدّات وزيادة القوة العسكرية وتطوير الكفاءات والحرص على التنظيم وغيرها من الأُمور.

بل كل هذه الأُمور ضرورية وأساسية ويجب الاهتمام بها وتوفيرها بحسب القدرة والوسع كما يقول الله تعالى {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ}.[الأنفال:٦٠]

‏فالتوكّل لا يعني ترك العمل والأخذ بالأسباب على الإطلاق.

فقد روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله رَأَى قَوْماً لاَ يَزْرَعُونَ قَالَ: «مَا أَنْتُمْ؟»، قَالُوا: نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ؛ فقَالَ صلى الله عليه وآله: «لاَ بَلْ أَنْتُمُ الْمُتَّكِلوُن».(مستدرك الوسائل:١١/٢١٧)

‏فمن أضحى عنده معرفة بالله تعالى يعلم أن مقتضى الحكمة الإلهية أن الأُمور تتحقق بواسطة الأسباب، ولكن على قاعدة أن جميع تلك الأُمور لا تعدو كونها وسائل لا أكثر، وأن العبودية لله وأداء التكليف الشرعي أهم من تحقيق النصر، وأن هذه الأُمور ليست هي من يحسم النتائج ويحقّق النصر ويضمن الوصول إلى الأهداف المنشودة، بل الاعتماد والتوكل يجب أن يكون أساساً على من بيده الملك وهو على كل شيءٍ قدير لا على الأسباب الظاهرية، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.[الملك:١]

فهو في الحقيقة الناصر والمعين، فعن الإمام الباقر عليه السلام قال: «مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللهِ لاَ يُغْلَبُ ومَنِ اعْتَصَمَ بِاللهِ لاَ يُهْزَم».(بحار الأنوار:٦٨/١٥١)

سابعاً: ذكر الله

مجلة الوارث - العدد 98لقد أمر الله تعالى المجاهدين أن يذكروه عند لقائهم العدو {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ}.[الأنفال:٤٥]

وليس المراد بالذكر هنا الذكر اللفظي فحسب، بل المقصود منه أيضاً الذكر القلبي بمعنى حضور الله تعالى في قلوبنا بحيث لا نغفل عن علمه وقدرته غير المحدودة ورحمته الواسعة.

ومثل هذا التوجه إلى الله يقوّي من عزيمة المجاهد في ميدان القتال، ويُشعره على الدوام بأنّ هناك سنداً قويّاً يدعمه في ساحة المواجهة، لا تستطيع أية قدرة في الوجود أن تتغلب عليه.

فذكر الله يبعث على الاطمئنان والقوّة والقدرة والثبات في نفس المجاهد {أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.[الرعد:٢٨]

نصائح مهمّة

أداء التكليف أهم من النصر

أيها المجاهدون.. اصبروا في مواطن الجهاد، وتواصوا بالصبر، وادعوا الآخرين إلى التمسك بالصبر والاستعانة به.. لا تتزلزلوا ولا تهنوا تجاه الهزائم الظاهرية، فمن أجل أداء التكليف نقاتل، ومن أجل الدفاع عن الدين والمال والعرض والروح نجاهد، ولم يشرع الرسول صلى الله عليه وآله الجهاد إلاّ من أجل الدفاع أوّلاً، فلم يكن الإسلام مهاجماً أو معادياً أو معتدياً لأي بشر أو لأيّ ديانة من الديانات السابقة.

ولهذا نهض الإمام الحسين عليه السلام، وما كانت ثورته من أجل الانتصار أساساً، بل من أجل أداء الواجب الإلهي.. وكلما كان البعض ينصحونه كما يدّعون بترك الثورة كان يرفض ما يقولون ويردّ قائلاً: «شاء الله أن يراني قتيلا». فهناك مشيئة إلهية وأمر ربّاني.

في الحرب وساحات القتال أيضاً كذلك، فالمهم فيها أداء الواجب الشرعي بأحسن وجه.. والقتال بتمام القوة والإمكانات.

وإذا كان الرأي الشخصي لأحد المجاهدين يتعارض مع أوامر القيادة فعليه التسليم لأوامر الإمام المعصوم عليه السلام وأن يضحّي بالتنازل عن رأيه وقناعته علماً يقيناً بأن كلام المعصوم عليه السلام هو وحي إلهي وأنّ الأوامر التي تصدر من الإمام المعصوم عليه السلام هو لمصلحة الإسلام والمسلمين.

قتل العدو ليس مسألة مهمة جداً، العمل الصعب والمهم هو تحمّل الرأي المخالف للقناعة الشخصية، والتنازل عن الرأي الشخصي حرصاً على مصلحة الإسلام.

اصبروا وصابروا.. ليكن لديكم صدرٌ واسعٌ بحيث تلتزمون الهدوء وتعملون لله سبحانه وتعالى.. وتصبرون حتى لو أساء البعض ممّن تحت إمرتكم القول، فإن السكوت هنا لرضا الله.

أيها المجاهدون الأعزاء في ساحات المواجهة، اصبروا أمام المصاعب والمحن لكي تستقبلكم الملائكة بالسلام والصلوات عليكم، ولكي تصلون إلى الدرجة التي يأتيكم معها الخطاب الإلهي: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}.[الفجر:٢٧-٣٠]

النتائج

يتّضح مما تقدم بعض الأُمور الرئيسة بالنسبة للمجاهد منها:

١. إنّ للجهاد شروطاً وآداباً على المجاهد أن يراعيها حتى يكون جهاده في سبيل الله، ويفوز بما وعده الله من الفضل العظيم، والكرامة في الدنيا والآخرة.

٢. من أهم هذه الشروط: القتال تحت راية الحق، طاعة القيادة، التقوى، الإخلاص، الصبر، التوكّل على الله، ذكر الله دائماً.

٣. التمرّد على القيادة وعدم طاعتها يدل على عبادة النفس والتعصّب للذات وهو ينافي مبدأ التسليم والعبودية.

٤. المجاهد إذا لم يكن مراعياً للحدود والواجبات الإلهية فسوف يكون عرضة لفتن النفس والأهواء المضلّة.

٥. الأعمال مرهونة بالنيات وإذا لم تكن النية خالصة فهذا يكشف عن وجود الشرك في القلب.

٦. الصبر الذي يعني القدرة على التحمّل والمقاومة والثبات مقدمة لبقية الفضائل والصفات.

٧. التوكل لا يعني ترك العمل بل هو استفراغ الوسع وبذل الجهد الأقصى والنتائج بيد الله وحده.

شاهد أيضاً

صدر العدد الجديد من نشرة اضاءات فكرية

#نشرة_اضاءات_فكرية العدد الرابع لتحميل العدد اضغط على الرابط التالي: https://online.fliphtml5.com/fsffe/zzry/#p=1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *