*شعبة الدراسات والبحوث الإسلامية/ عن مصادر بتصرف
الإلحاد وأسبابه
إنّ تعنّت الملحدين قبال الأديان وخصوصاً الدين الإسلامي يمكن أن يكون له أسباب مختلفة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية.
لكن قبل التعرض تفصيلاً لهذه الأسباب وتحليل كل منها على حدة، نرى من المهم التأكيد على أمرين:
الأمر الأول
إنّ اصطفاف الملحدين والمتديّنين ضد بعضهما البعض ليس هو بالأمر الجديد، فقد كان ذلك معروفاً من قبل الجانبين على مدى التاريخ وبطرق وأنحاء مختلفة.
وبناءً على هذا فينبغي الالتفات إلى أنّ هذا الاصطفاف لم يكن من جانب الملحدين فحسب، لكن يبدو أنّ صوت الملحدين اليوم قد ارتفع بأعلى مما كان عليه في السابق بسبب حصولهم على إمكانيات تخريبية تكنلوجية إعلامية وعسكرية.
الأمر الثاني
لا ينبغي أنْ يظن أنّ هذه الاصطفافات في جميع مواردها هي في قبال حقيقة الدين والإسلام، بل ربما كانت تلك المواقف ردود أفعال في قبال الفهم الخاطئ للدين أو الأسلوب الخاطئ في تعامل المتديّنين مع المجتمع حيث انعكس صورة سلبية في ذهنية الناس من الدين والتديّن والمتديّنين.
وفيما يلي نتعرض إلى بعض الأسباب لحركة الانحراف بنظرة خاصة إلى الدين الإسلامي باعتباره أشمل و أكمل الأديان الإلهية.
بعض الأسباب في ظهور ظاهرة الإلحاد
١. الأسباب السياسية
إنّ التجارب المرة لبعض الحكومات المنتسبة للدين على مدى التاريخ ومنها القرون الوسطى المسيحية في العالم وعهد الحكام الأمويين والعباسيين والعثمانيين والطالبانيين والحكومات الإسلامية في العالم الإسلامي التي كانت تحت سلطة المتلبّسين بالدين، كذلك القوة العظمى في العالم وما صاحبها من النزاعات والحروب المذهبية والطائفية في داخل الأديان، قدت حولت إلى ذريعة بأيدي الملحدين لكي يقوموا بعرض الدين كأطروحة فاشلة على المستوى العام على الأقل (السياسة والاجتماع) وتعميم هذا الفشل أحياناً إلى المستوى الخاص أيضاً ووصف الأديان بأنّها سبب العنف ونزف الدماء ودمار البشر والاختلافات والحروب بين الدول.
ولقد كان لظهور الجماعات السياسية المنحرفة والمنتسبة للإسلام والحركات السلفية التي قد تحمل أفكاراً منحرفة لكن متلبّسة بالدين وتقوم بالعمل باسم الدين أثر مهم في موجة التخويف من الإسلام والهجمات الإعلامية المكثفة ضد الإسلام.
٢. الأسباب الاجتماعية
إنّ توسع المجتمعات المدنية والحياة الحديثة قد أوجد حياة مجتمعية جديدة جعلت في قبال جنة الطبيعة التي ورد وصفها في القرآن والروايات الإسلامية، وقد أنجز ذلك إلى التقابل بدين الإسلام والحداثة، وقد بقي هذا التقابل قائماً رغم كل الجهود الفكرية للمثقفين المسلمين على مستوى التوفيق بين الإسلام والحداثة.
إنّ إخفاق المثقفين المسلمين في رفع هذا التقابل يعود إلى أنّهم في الغالب ينظرون إلى الإسلام من الإطار الحداثوي، بمعنى أنّهم يسلمون أولاً بحقانية الحداثة ومن ثم يحاولون تطبيق التعاليم الإسلامية على المثل الحداثوية، وهذا أمر خاطئ.
وقد تسبب هذا السعي العقيم بهم بالتالي إلى الذهاب للقول بوجوب إعادة النظر و العدول عن الإسلام.
فضلاً عن عدم الانسجام السلوكي الموجود في المجتمعات الإسلامية التي تحاول الحفاظ على المظاهر الإسلامية مع التلبس بروح الحداثة، أدى بالنتيجة إلى دعم الرأي الباطل الذي يقول إنّ الدين الإسلامي التقدمي هو دين رجعي! أو على الأقل لا ينفع المجتمع المعاصر.
إنّ هذه الرؤية الخاطئة تستند إلى قلب مفاهيم الألفاظ بحيث يعد أي انتقاد أو تشكيك في المثل الحداثوي مساوياً للرجعية والتخلف.
٣. الأسباب الاقتصادية
إنّ تبني الاقتصاد الرأسلمالي (الكابيتاليسم) في الدول الإسلامية فتح الطريق أمام الاستعمار الحديث الذي يقوم بالتعرض إلى المعتقدات الإسلامية.
بحيث إنّ النفط باعتباره ثروة كبيرة موجودة في هذه الدول لم يصبح سبباً للتقدم – وليس هذا فحسب – بل إنّه صار سبباً في اعتماد المسلمين اقتصادياً على الدول الغربية، وذلك بمعونة شيوع ثقافة الاستهلاك والاقتصاد القائم على أساس الاستهلاك في المجتمعات الإسلامية.
فحين يستذوق المسلمون طعم المنتجات والتكنلوجيا الغربية فإنّهم سوف يستنتجون بالتدريج أنّ هذا النوع من الاقتصاد لا ينسجم مع الإسلام.
ولذلك فهم إمّا أن يتركوا هذا النوع من الاقتصاد ويحاولون التحرك نحو الاقتصاد القائم على أساس الانتاج، وإمّا أن يريحوا أنفسهم ويتركوا الإسلام ويخضعوا بشكل تام لسيطرة الغرب.
٤. الأسباب الثقافية
يمكن أن نذكر هنا أسباباً ثقافية مختلفة ومنها القراءة السطحية للدين من قبل البعض، وينتج عن ذلك الدفاع السطحي والمتعصب عن الدين، أي فهم الدين بشكل خاطئ، كذلك الابتعاد بل المعاداة للمعارف الإسلامية الرفيعة من قبل هؤلاء المدعين للدفاع عن الدين، وقد أدى ذلك إلى فسح المجال أمام الامبراطوية الإعلامية الغربية لكي تقوم بتعظيم مكانة مثل هؤلاء الأشخاص وإنّهم هم الممثلون الرسميون للإسلام وبذلك تعرض مشوهة غير إنسانية وخرافية وغير عقلانية عن الإسلام والثقافة الإسلامية.
حقيقة الإيمان في مقابل وهم الإلحاد
طرح الملحدون مجموعة من الشبهات ردّ عليها علماؤنا الأجلاء في كتبهم وبحوثهم، فمن الشبهات المثارة حول الدين من قبل الملحدين أو الحداثويين هو التشكيك بوجود الخالق لعدم الرؤية.
فقال الملحدون: لقد آمن بالله من آمن دون أن يراه بحس، ويتناوله بتجربة، وإنّما فرض وجوده ليُفسر به الكون ونظامه الحكيم الدقيق بعد العجز عن تفسيره بالعلم ومنطق الحس، زاعماً أنّ مثل هذا النظام الكوني لا يمكن أن يصنعه شيء إلا قوة خارقة فوق المادة والطبيعة.. وهذا مردود أولاً لأنّه إيمان بالغيب؛ وثانياً أنّ النظام الكوني تولد من نفس الكون لا من قوة خارجة عنه، وقد أودعت فيه النظام والانسجام كما يدعي المؤمنون ويُعرف هذا العليل بالتولد الذاتي والتفسير الميكانيكي.
حتمية الإيمان بالغيب
الجواب عن الاعتراض الأول
إنّ كل من آمن بشيء لم يره فقد آمن بالغيب، والمنكرون للقوة الخارقة المدبرة يعتقدون بوجود أشياء لا يمكن أن تنالها يد التجربة، ويستحي على الحس أن يصل إليها بأية وسيلة من الوسائل.
ومن ذلك على سبيل المثال الجاذبية في المادة، أو المغناطيس في الحديد، أو وجود إلكترون، أو ما يجري في العقل من تفكير واستنتاج، ويرتسم في الذهن من صور، ويختلج في القلب من ميول، ويرسخ فيه من إيمان.
وكيف تختزن الذاكرة المعلومات، وتحتفظ بها لوقت الحاجة.. وقد حيّر لغز الذاكرة العلماء بعد أن اكتشفوا أنّ في طاقتها أن تستوعب بلايين المعلومات، وأيضاً يعتقد الماديون بوجود الأثير الذي تألف منه الكون دون أن يقع تحت اختبارهم.
ومثله من زعم أنّ أصل الإنسان قرد.
هذا، إلاّ أنّ عالم الفلك يؤمن بوجود كوكب غائب عنه ويحدد مكانه من حركة كوكب آخر شاهده وراءه، والطبيب يكتشف نوع المرض من ظهور آثاره، والقاضي يحكم بالدماء والأموال من القرائن القضائية وغيرها دون أن يرى الجريمة ويشاهدها، وصاحب الحفريات يتحدث عن الأمم الماضية، والقرون الخالية من مشاهدة البقايا والحطام، وكل الناس يحكمون على الإنسان من خلال سلوكه دون أن يطلعوا على سريرته، بل ومن صفحات وجهه وفلتات لسانه، وأيضاً يؤمنون بصدق المحدث أو كذبه من طبيعة كلامه وسياق حديثه، بل اتفق العلماء والفلاسفة قولاً واحداً على أنّ الإنسان يستحيل عليه أن يُدرك ذات الأشياء الموجودة في الكون وحقيقتها، وإنّ كل ما يعرفه عن أيّ شيء صغير وحقير هو صفاته وظواهره كل ذلك وغيره كثير إيمان بما لم تنله يد التجربة ولا يصل إليه الحس.
فإنّ الكون يزخر بالحقائق الخفية التي لا تُرى بالعين ذات الطاقة المحدودة، وما من عاقل على وجه الأرض إلاّ يؤمن بالعديد من هذه الحقائق، ويرى الإيمان بها من الضرورات الأولية التي لا مفر منها لأحد على الإطلاق.
إذن فبالأولى أن يكون الإيمان بالله ضرورياً بعد ظهور آثاره في خلقه الذي تعجز الأوهام والألسن عن وصفه.
وقال بعض الفلاسفة: (حد العقل أن ينتقل الإنسان من معلوم إلى مجهول، من شاهد إلى غائب، من حاضر إلى مستقبل لم يحضر بعد أمام البصر، أو إلى ماضٍ ذهب وانقضى ولم يعد مرئياً مشهوداً.. فإذا لم يكن ذلك فلا عقل).(تجديد الفكر العربي لزكي نجيب محمود)
ومعنى هذا أنّ من لا يؤمن بالله لا لشيء إلاّ لأنّه لم يره بالذات فلا عقل له، لأنّ مهمة العقل أن يرشدنا إلى ما لا يمكن إدراكه بالحس والتجربة، وأن يحذرنا مما تخبئه الأيام، وينفعنا برؤيته وموعظته.. والذكي اللامع هو الذي يفهم من الإشارة، ويدرك المغيبات من القرائن، ويؤمن بها حتى كأنّها مجسدة أمام عينيه.
وقال الشاعر:
الألمعي الذي يظن بك الظن
كأنّ قد رأى وقد سمعا
خطأ التفسير الميكانيكي للكون
الجواب على الاعتراض الثاني
إنّ المادّة جامدة عمياء لا روح فيها ولا شعور، ولا وعي ولا إدراك، فكيف نظمت نفسها بنفسها، وقدرت كل شيء في الكون تقديراً على سنن ثابتة ونواميس محكمة؟
لقد حاول الماديون أو الكثير منهم حل هذه المشكلة بفرض ضروري عندهم حدساً وتخرصاً، وهو أنّه في بداية ذي بدء وقبل أن يوجد الكون على وضعه الحالي كان هناك أثير ساكن راكد يملأ أطراف الفضاء.. ثم حدثت حركة قوية فجأة ومن باب الصدفة، واستمرت ملايين السنين، ومن هذه الحركة الدائبة وحتمية تطور المادة تألف هذا الكون الموجود الآن بأرضه وسمائه، وجماله وبهائه، وتخطيطه ونظامه وترتيبه وانسجامه.
فنسأل الملحدين: من أين جاء العلم بوجود هذا الأثير الذي سبق وجود الكون مع القطع واليقين بأنّه لم يقع تحت الحس ولا دلت عليه الآثار والقرائن؟ ولو سلمنا جدلاً بوجوده فمن الذين أوجده؟ ثم من الذي حرّكه؟ وهل الصدفة والحركة العشوائية الهوجاء تنتج هذا النظام البديع الشامل لأفلاكه وكواكبه وذراته ومجراته؟
وإذا وجد الكون بما فيه ومن فيه من باب الصدفة فلماذا لا يكون هذا الزعم صادراً عن غير قصد.. وكذلك قفز الإنسان إلى القمر، ووجود القرى والمدن، والمصانع والمعاهد، وجميع المخترعات، والأسفار والأشعار، كل ذلك وما إليه ما كان ويكون من باب الاتفاق والصدفة!
وكيف ننسب الكون ونظامه العجيب إلى الصدفة، ولا نترك لها نحن أتفه الأمور؟ ثم هل يسوغ لنا أن نذم ونعاقب من أساء وأجرم، ونمدح ونثيب من أحسن وأنعم، ونحن نؤمن بنظرية الاحتمال وقانون الصدفة؟
وهل يقبل العاقل الخبير العليم أن عقله وشعوره تولدا من مادة لا عقل لها ولا شعور، وأنّ سمعه وبصره أوجدهما ما لا يسمع ولا يبصر؟ وأيضاً هل يقبل عقل عاقل أن بصمات الأصابع وملامح الوجوه وروائح الأجسام قد اختلفت بين الملايين من أبناء البشر، هل يقبل العقل أن كل ذلك حدث لمجرد الصدفة؟