* بقلم: الدكتور حسين علي الشرهاني
من مقدمة الكتاب:
يعد الإسلام ثورة اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية فضلاً عن كونه ثورة دينية، استطاع أن يقلب الموازين التي كانت سائدة في مجتمع الجاهلية، فأحدث تغييرات في مجالات متعددة في بنية هذا المجتمع فخلق مجتمعاً مثالياً قلّما نجد له مثيلاً في تاريخ الإنسانية، وكان التغيير تدريجياً ابتدأ بنبذ الشرك وملحقاته واستبداله بالتسليم والإيمان المطلق بوحدانية الله سبحانه وتعالى، ثم انتقل إلى معالجة المشكلات الاجتماعية والاهتمام بإنسانية الإنسان، فحارب الرق والعبودية والطبقية واستغلال الإنسان بسبب لونه أو نسبه أو غير ذلك، وعندما أصبح مركز الإسلام عزيزاً عالج القضايا السياسية والاقتصادية، بعد أن أنشأت الدولة
الإسلامية في المدينة المنورة وتوسعت لتشمل الجزيرة العربية كلّها.
لذلك سعى الباحثون بمختلف انتماءاتهم إلىالكتابة عن الإسلام في بداياته، وتناولوا مواضيع شتى بحسب اهتماماتهم، وكان للجانب الاجتماعي نصيب كبير من هذه الكتابات، لما له من أهمية في نجاح الدعوة الإسلامية وانتشارها، لكنّ هذا لا يعني أنّهم غطوا كلّ المواضيع المتعلقة بهذا الجانب، لذلك اخترنا موضوعة بسيطة فيه وركزنا بحثنا فيها، وهذه الموضوعة هي أثرالمرأة المسلمة في الدعوة الإسلامية ومواقفها عند قيام الدعوة، وركزنا على صناعة الإسلام لهذه المرأة والكيفية التي فتق فيها مواهبها وصقل شخصيتها وأخرجها من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام، فأنتج عالمة ومجاهدة وعاملة ومربية وغير ذلك، فكانت كالأرض البكر الخصبة إذا اعتُني بها أنبتت أحسن نبت. وفي بحثنا هذا حاولنا أن نتناول جانباً من التغيير الذي أحدثه الإسلام، فاخترنا امرأة ودرسنا سيرتها دراسة موجزة، وكان سبب اختيارنا لهذه المرأة ليس لكونها امرأة مسلمة فقط، أو لأنّها تشرفت بالزواج من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع ما لهذا الأمر من أهمية، بل لأنّها كانت امرأة عاقلة لبيبة ذات آراء متوازنة وعقل منظَّم، وهي قوية إلى درجة استعدادها أنْ تضحي بكل شيء من أجل ما آمنت به من مبادئ وضعتها ثورة التغيير، فتركت العزّ والجاه والقبيلة القوية التي تنتسب إليها لتهاجر مع زوجها، وتلتحق بركب الثوار الذين فروا بدينهم إلى الحبشة، ثم ترجع وتنال صنوف العذاب، ويكون قرارها أنْ تهاجر مرة أُخرى إلى يثرب فتكون أول امرأة مهاجرة إلى يثرب بمفردها ومعها ولدها الصغير قاطعةً مسافات طويلة لتصل إلى حيث يكون لمبادئ الثورة مجالٌ وحرية للحركة.
وعلى ما تقدم نجد أنَّ المرأة موضوع البحث تستحق أنْ تسلط عليها أقلام الباحثين وأنْ يبرز دورها، لاسيما أنّها لم تنصف وتنال استحقاقها من البحث العلمي، على الرغم من أنّ كتب التراث الإسلامي حفظت لها كثيراً من الروايات والأحاديث النبوية التي نقلتها عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك بعد أن تزوجها على أثر استشهاد زوجها في معركة أُحد، حتى أنّك لا تكاد تفتح كتاباً من كتب الحديث أو التفسير أو الفقه من دون أنْ تجدها قد روت قسماً كبيراً من الأحاديث الموجودة فيه، وهذا ينقلنا إلى جانب آخر من شخصيه هذه المرأة. وحتى بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لم تكن أُمّ سلمة امرأة هامشية بل كانت فاعلة في مجتمعها بالقدر الذي تستطيعه من أجل الحفاظ على ثمار ثورة التغيير، فوقفت طيلة حياتها التي امتدت ما يقارب نصف قرن بعد الرسول )صلى الله عليه وآله وسلم( مع الحق، وأوضح هذه المواقف موقفها الحازم بوجه من خرج على خلافة الإمام عليٍّ (عليه السلام)، لاسيما عائشة فحاججتها بكلِّ ما تملك من قوة بيان وأدلة عقلية حتى أنّها لم تترك لها أيَّ منفذ لكنّ هذا الموقف لم يردع عائشة عمّا عزمت عليه.
وانتهت حياة السيدة أُمّ سلمة بعد أنْ شهدت أبشع جريمة ارتكبها طلقاء الأُمَّة وأعداء الإسلام والمتمثلة بقتل الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وسبي نسائه وأطفاله والتمثيل بجسده، في معركة تجسدت فيها البطولة من جانب الإمام الحسين (عليه السلام) والذين معه، وفي الجانب الآخر برزت كلُّ صور الوحشية والهمجية والإجرام، وكأنّ هذه المرأة كانت شاهدة على التاريخ، فهي التي شهدت بناء دولة الإسلام منذ البدايات الأُولى، ورأت كيف بُنيت دولة الإسلام وتوسعت حتى صارت دولة الله في الأرض، ثم طالت بها السنون لترى انقلاب الكفر على هذه الدولة ومحاولة القضاء على ما قدمه الإسلام للإنسانية، فذهبت إلى ربها شاهدة على ما حدث راضية مرضية.
وعلى الرغم من أنّ بحثنا هذا كان مختصراً ويعتريه الكثير من النقص لكنّه يبقى محاولة للتعرف على أثر السيدة أُمّ سلمة (رضي الله عنها) في دولة الإسلام، وهو لا يخلو من فائدة إذ حاول البحث أنْ يتسلسل في عرض حياتها وأثرها في الإسلام منذ دخولها فيه وحتى وفاتها. ولم نقسم البحث إلى فصول بل فضلنا أنْ يكون موضوعاً واحداً متصلاً، تناول في البداية نسب السيدة أُمّ سلمة أي العشيرة القرشية التي انحدرت منها وعلاقة هذه العشيرة ببني هاشم من حيث القرابة، وعدد أبنائها ومآثرهم في الجاهلية، وأثرهم في أحداث مكة قبل البعثة، ومصادر القوة المالية التي ميزتهم عن غيرهم وأثر هذه القوة على وجودهم الاجتماعي والسياسي في مكة، ثم انتقل البحث للتعرف على أُسرة أُمّ سلمة القريبة، وصلة القرابة التي تربطها مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وموقفها من الدعوة الإسلامية، ثم حاول الباحث تحديد تاريخ ولادة السيدة أُمّ سلمة من خلال الروايات التي بينت مقدار عمرها وسنة وفاتها، ثم تطرق لإسلامها وهجرتها إلى الحبشة وعودتها إلى مكة مع زوجها عبد الله بن عبد الأسد «أبو سلمة »، ثم هجرتها إلى المدينة وحجم المعاناة التي تعرضت لها في هذه الهجرة إذ ضيقت عليها قريش وفرقت بينها وبين زوجها وابنها، ثم حاول الباحث تحديد تواريخ ولادة أبنائها. ثم انتقل الباحث مع السيدة أُمّ سلمة وعائلتها إلى المدينة حيث تأسيس دولة الإسلام، فتناول المكان الذي نزلوا فيه وحياتهم في المجتمع الجديد، وأثرهم في بناء هذه الدولة ومشاركتهم في معاركها، واستشهاد أبي سلمة في إحدى هذه المعارك، وحال أُمّ سلمة بعد استشهاده. وبعد ذلك تناول الباحث أهم مرحلة في حياة أُمّ سلمة وهي زواجها من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وانتقالها إلى بيته وعلاقتها مع أزواجه ومشاركتها له في معاركه التي خاضها في سبيل بناء دولة الإسلام.
وكانت نهاية البحث قد ركزت على أثر أُمّ سلمة في الأحداث التي مرّ بها المسلمون في صدر الإسلام ابتداءً بوفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وانتهاءً باستشهاد الإمام الحسين (عليه السلام). ومن المفيد القول إنّ البحث كان مقصوراً على الإيفاء بجزء مهم وأساسي من حياة أُمّ سلمة وهو روايتها للحديث والتفسير، إذ عرف عن أُمّ سلمة كثرة الرواية وذلك كان ناتجاً من المدة التي قضتها مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وصلتها الوثيقة به، لأنّها كانت دائماً تخرج معه في سفراته، واحترام الرسول (صلى
الله عليه وآله وسلم) لها ولآرائها، وهذا ما سنلاحظه في طيات البحث، كذلك فإنّها عاشت فترة طويلة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذه الفترة مرّ بها المسلمون بتحديات كثيرة لذلك كانوا يلجأون إلى الأشخاص الذين عاشوا مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من أجل سماع الأحاديث منهم، وهذا النقص سببه أنّ هذه الأحاديث كثيرة ومنتشرة في عشرات المجلدات يصعب جمعها في بحث مقتضب كهذا، بل يحتاج إلى بحث مستقل لتناول الأثر الديني الذي تركته.