تأليف: هناء محمد كريم
مقدمة اللجنة العلمية:
لا شكّ في أنّ دراسة الشّخصيّات الفاعلة في تاريخ الأمم تُمثّل أساسًا متينًا في فهم حركة التّاريخ ومساراته المتباينة، إذ تتشكّل تلك الشّخصيّات بما تُمثّله من رمزيّة بناءً على المناهج الّتي تتسيّد تاريخ كلّ أمّة، على وفق الولاء أو العداء.
إنَّ ظهور الإسلام في جزيرة العرب أعطى زخماً كبيراً لظهور طبقة متقدّمة زمانًا ومكانةً من الصحابة الأبرار، الّذين قدّموا نفوسهم فداءً للإسلام ولنبيّه المصطفى صلّى الله عليه وآله.
واستمرّت تلك الحركة الولائيّة بعد النّبي الأكرم صلّى الله عليه وآله، فانجذبت نحو المثال بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله، فدرات حول محورية الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام الذي مثّل مرتكز الإسلام وجوهره الأصيل، فشكّل عامل جذبٍ لكثير من الصّفوة الصّفيّة من الأمّة الإسلاميّة، من أمثال عمّار بن ياسر وأبي ذر الغفاريّ وسلمان المحمديّ ومالك الأشتر والمقداد بن الأسود رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، ومن هذه الصّفوة الصّحابي الجليل كميل بن زياد النخعيّ رضوان الله تعالى عليه، الّذي لازم أمير المؤمنين عليًّا عليه السّلام واستنار بهديه، وتشكّلت حياته رضوان الله تعالى عليه في محورين أساسيين:
تمثّل أوّلهما باتّباعه الإمام علي عليه السّلام في سلمه وحربه، وفي أوامره ونواهيه، مدافعاً عن الإسلام الأصيل، وثوابته الحقّة، تحت راية إمامته عليه السّلام.
وأمّا المحور الآخر: فتشكّل في معارضته أعداء الإسلام الداخليين في عهد الخلافة، وصولاً إلى العهد الأموي.
لم يكن كميل بن زياد مجرد صحابيّ دخل الإسلام ليكون رقماً هامشيّاً فيه، بل دخله ليكون ضمن النّخبة المنتقاة الّتي فهمت حقيقة الإسلام وآمنت به إيماناً صادقاً، فالتحقت بعليّ بن أبي طالب عليه السّلام ومنهجه الأصيل الذي أوصى به النبيُّ أمتَه حينما قال: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثّقلَيْن: كِتَابَ الله وَعِتْرَتي أَهْلَ بَيْتي مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلّوُا بَعْدِي أَبَدًا»، فلم يكن هذا الولاء الكامل من قبيل الصّدفة، أو نتيجة لمصلحة كان يتغياها كميل، بل كان مساراً سعى إليه كميل بعزم صادق، وبنيّة طاهرة، وتخطيط عميق، فضلًا عن وجود عامل آخر أسهم في التصاق كميل بالإمام علي عليه السّلام تمثّل بانتمائه القبلي الذي ترك أثراً بيِّناً في صناعة شخصيته الولائيّة، فهو ينتمي لقبيلة النخع اليمنيّة التي تنتمي بدورها لقبيلة مذحج الّتي عُرِفَت بولائها للإمام علي عليه السّلام وولده، تلك القبيلة الكبيرة الّتي دخلت الإسلام بدعوة الإمام عندما بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله داعياً للإسلام، وكانت حملة الإمام علي عليه السلام أوّل حملة دخلت أرض تلك القبيلة، ودخلت إلى الإسلام من بوابة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهما السلام, وبقيت دعوة الإمام عليه السّلام ماثلة في نفوس أبنائها، فتُرجم ذلك ولاءً صادقاً له عند انتقالها لمدينة الكوفة، قبلية مذحج وفرعها الأصيل النخع أنجبت إلى جانب كميل وزيرَ الإمام عليه السلام وثقته والشهيد في حبه مالكَ بن الحارث الأشتر النخعي وهانئ بن عروة المراديّ رضوان الله تعالى عليهما.
لقد وُصِف قُرب كميل من الإمام علي عليه السّلام ومنزلته عنده، كمنزلة سلمان المحمدي عند رسول الله صلّى الله عليه وآله في القرب والمكانة، وهو بحقّ كان مستحقّاً لهذه المنزلة السامية، فهو من سادات قومه وكبرائهم، ومكانته عظيمة عندهم على شرفهم وكثرة زعمائهم، برز على حداثة سنّة في قبيلته وكان مقدماً في المجتمع الكوفي فاعلًا فيه، وكان أحد قادة المعارضة على بني أميّة ومنهجهم في حكم الدّولة، وتشويه صورة الإسلام وحرف مساره، فتحمّل في سبيل ذلك صنوفاً من الحرمان والنّفي والسّجن, وتشكّل نتيجة لذلك محور مقاومة ضدَّ الحكم الأمويّ في أيام عثمان بن عفان، كان كميل أحد أبرز أقطابه، الذي أثمر بوصول الإمام علي عليه السّلام إلى الحكم، فكان كميل من النّخبة الّتي قرّبها علي بن أبي طالب عليهما السلام، واعتمد عليها في إدارة الدولة.
سعى كميل رضي الله عنه في سنوات عمره الشريف لنشر تعاليم الإسلام في أطوار حياته المتنوّعة، مسلماً، ومجاهداً، ووالياً، وتلميذاً لمولاه علي بن أبي طالب عليهما السّلام حتى حباه بالدّعاء المعروف باسمه، وعلمه إياه؛ لسموّ قدره وعلوّ همّته، وصفاء نفسه، فنقله لنا حتّى صار ظاهرة عبادية لدى أتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام.
حتى إذا استشهد الإمام علي عليه السّلام انتهى به المطاف محاصرًا فيما تبقى من حياته، فأبى الله تعالى إلاّ أن تُختم حياته الشريفة بالشّهادة في سبيله، وكان ذلك على يد ألعن خلقه الحجاج بن يوسف الثقفيّ. فارتقت روحه الطاهرة إلى ربها راضية محتسبة، فطبت يا كميل صحابيًّا ومجاهدًا ومناصرًا لمولاك علي عليه السّلام، ويوم تُبعث مضرّجًا بدمك، لتكون شاهدًا على من ظلم الأمّة وشوّه إسلامها.
حسنًا فعلتْ الباحثة الفاضلة في دراستها هذه، إذ عرضت الجوانب المتنوّعة لحياة كميل بن زياد النخعي رضوان الله تعالى عليه، وبرزت جوانب شخصيّته الّتي غيَّبها التّاريخ المؤدلج, وتناولت بالكشف والتحليل العوامل المحرّكة للأحداث التي عاصرها, فكانت الخلاصة هذا الجهد الأكاديمي الذي يستحق أن يكون مصدراً من المصادر المهمة التي تسدُّ فراغًا في المكتبة الإسلامية.
في الختام نسأل الله تعالى التوفيق للباحثة, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا المصطفى محمد وآله الطيبين الطاهرين.