البحث في فهارس المكتبة:

لماذا لم ينص الله على أصل الإمامة؟

مجلة الوارث 87
لماذا لم ينص الله على اصل الامامة؟

*روح الله عباس

يعلم الجميع أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد بعث في زمن كان الناس يرون فيه أن تعظيم الرب والفخر به هو بجعل بيت نارهم أكبر من بيوت النار الأخرى أو بيت أصنامهم أكثر فخامة وأصنامهم أكبر، أو بصنعهم الأصنام من المعادن الأثمن.

وهكذا فمن كان ربّه من ذهب فمكانته أكبر وأهميته أكثر من غيره، حتى أنّ الناس كانوا يحملون أربابهم في العربات إلى الحروب، كما فعل أهل مكة عندما أتوا بهُبَلْ في حربهم مع المسلمين.

في مثل تلك الأيام أرسل الله نبي الإسلام، وكانت دعوته الأولى للبشر أن يحطموا هذه الآلهة التي صنعوها وأن يبلغوا الفلاح بتوحيد الله (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا)، ثم أتى بالقوانين السماوية التي ترتكز جميعها على أساس العقل وبلّغها إلى البشر بالتدريج ورمى الأفكار الجاهلية وما ابتدعه الناس من أنفسهم وشكّل حكومة عادلة ترتكز على شريعة السماء.

وبعد عشرين ونيفاً من السنين التي حفلت بسلسلة جهود وتبليغات منطقية إلهية، وسيرة عادلة، وأخلاق عظيمة جالبة للقلوب، واستخدام قوى معنوية ومادية فريدة من نوعها وبذل الكثير من تضحيات المضحين في سبيل الدين الإلهي المقدس، وفّق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لإقامة تشكيلات تقوم على العدالة والتوحيد.

ولم يتوقف رسول الإسلام حتى آخر عمره عن بذل الجهد، كما هو معلوم للجميع ومنصوص في التواريخ، واستمر في تثبيت توحيد الله وتوحيد الكلمة والعقيدة حتى يقيم الدين والمذهب.

فلو سألنا عقلاء العالم والذين يمسكون بزمام الأمور في الدنيا، هل لإبقاء هذا الأساس المحكم والدين السماوي العظيم أهمية في محافل العقلاء؟ هل يرون أن تثبيت الله لهذا الأساس بواسطة رسول الإسلام أمر لازم أم أن بقاءه وعدمه سواء، لا فرق بين أن يرجع الناس عن الدين أو أن يبقوا متدينين؟ وإذا كان الأمر سياناً فبمقدور العقلاء حينئذ أن يعترضوا على الله قائلين إن كان وجود الحكومة والدين وعدمه سواء فلماذا أرسلت رسولاً وأنزلت كتاباً؟!

ولما كان الله منزّهاً عن عدم الاعتناء بالتوحيد والعدل فاللازم أن يعطي أوامره لتركيز هذا الأساس بعد النبي حتى لا يبقى الناس من دون تكليف بعده ولا تتحكم الأهواء وحب الرئاسة بالدين والبلاد.

إنّ نبياً لم يدع صغيرة ولا كبيرة إلاّ وبيّن حكمها، حتى أحكام التخلّي والرضاعة والخلوة مع المرأة، فهو إن لم يذكر حكم هذا الأمر المهم الذي يرتكز عليه بقاء الدعوة والنبوة، وتتوقف عليه أسس التوحيد والعدالة، وإن لم يشر طوال عمره بأية كلمة إلى هذا الأمر تاركاً الدين الإلهي عرضة لأغراض حفنة من الغزاة يقومون بعد موته بكل تلك الأعمال المعروفة عند الجميع طلباً للرئاسة، والتي ذكرت في كتب التاريخ عند السنة والشيعة، فسوف يعترض عليه عقلاء العالم ويلومونه ولن يعترفوا بنبوته وعدله وإنصافه.

إنّ نبيّنا يقول «من مات ولم يوص مات ميتة جاهلية»، أي مات كافراً، والله يأمره ويرسله بآيات القرآن لأجل الوصية، فأيّ اعتبار يمكن أن يعطى لنبي لم ينطق بكلمة واحدة تجاه هذا الأمر الذي هو أهم الأمور والوصية به أولى من كل شيء وأحوج، وأي اعتبار سيكون لنبي لم يعمل بقول الله؟!

نحن نعبد إلهاً نعرف أن أعماله ترتكز على أساس العقل ولا يعمل عملاً مخالفاً للعقل، لا إلهاً يبني بناء شامخاً من التأله والعدالة والتدين ثم يخرّبه بيده، ويعطي الإمارة ليزيد ومعاوية وأمثالهم من المهاجمين، ولا يحدد المطلوب من الناس بعد النبي، وإلى الأبد، فيساعدوا في تأسيس بناء الظلم والجور بدلاً من محاربته وتحطيمه.

إنّ رئيساً تحت يده خمسون موظفاً أو رب عائلة مؤلفة من عشرة أفراد إذا أراد أن يسافر لشهرين لا يبقي مؤسسته دون تحديد المطلوب ولا يدع عائلته بلا مسؤول، فكيف برسول الإسلام الذي أتى بآلاف التشريعات السماوية العظيمة والإلهية المحكمة، وأقام نظاماً شامخاً مستنداً إلى حكم العقل وحكومة إلهية عادلة، وهو يريد أن يرحل عن هذه الأمة إلى الأبد، وقد خبر خلال الثلاثين أو الأربعين سنة الخائنين والمنافقين وعرفهم، والله أيضاً مطّلع وعالم بأن حكومات جائرة ستتشكل بعد النبي وسيجعلون الدين غطاء لأغراضهم المسمومة.

فماذا يحكم العقل هنا؟ هل يجب أن يبيّن هذا الأمر العظيم والأساسي لبقاء التوحيد والعدالة أم يهمل ويترك الدين تحت يد جماعة معلومة الحال ستزلزل الأمور بعد موته وتنشر الفوضى لكي تصل إلى الرئاسة والحكومة وتشعل نار الفتنة من ذلك الحين؟!

هل يتراجع الله عن الهداية وإرشاد الأمة إلى صلاحها وهو قد عرّفهم ذلك خلال أكثر من عشرين سنة، وأنزل في كتابه {…إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}.(الرعد:7)

إنّ الأمة حين تتزلزل أسس التوحيد والعدالة فيها هي أحوج ما تكون إلى التنصيص على المطلوب منها بعد النبي فهل تترك الأمة في ذاك الحين حائرة هائمة؟ ماذا يقول العقل والعقلاء؟ ماذا يحكم هذا الرسول الباطني للإنسان والذي ينير له الطريق في هذا المجال، ألا يلزم من الله والنبي، التصرف وفق حكم العقل أم أن الله يعبث ويأتي بنظام عظيم تصنعه يداه ليخرّبه فوراً؟ ألا يحكم العقل بأنّ الإمامة أصل مسلّم في الإسلام وقد حدده الله، سواء أتى على ذكره في القرآن أم فرضنا أنّه لم يأت على ذكره؟!

إنّ البحث في الإمامة بحر لا ينتهي والكتب التي كتبت في هذا الموضوع منذ وفاة الرسول حتى الآن بأقلام الشيعة والسنة هي أكثر من أن يتمكن من إحصائها أحد.

والقرآن الكريم يعد حافلاً بالآيات التي تصرح بهذا الأصل ومنها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}.(النساء:59)

فالله تعالى شكّل في هذه الآية حكومة الإسلام إلى يوم القيامة، ومن الواضح أنّه لم يوجب طاعة أحد إلاّ هؤلاء الثقاة، وحيث أوجب إطاعة أولي الأمر فلا محيص عن أن تكون الحكومة الإسلامية حكومة واحدة لا أكثر.

وأن لا يكون هناك أكثر من تشكيلة واحدة وإلا لزم الهرج والمرج؛ وإذا كانت إطاعة الله والنبي واضحة فالذي يجب على العقل أن يبحثه هو تحديد من هم أولو الأمر؟ وما هي مواصفاتهم؟ يقول البعض إن السلاطين والأمراء هم من أوجب الله على الناس إطاعتهم واتباعهم، وقد آمنوا أن سلاطينهم من أمثال مصطفى كمال باشا، رئيس تركيا؛ ورضا خان شاه إيران هم أولو الأمر وأن طاعتهم واجبة.

والسنّة طبقوا ذلك على الحكماء المسلمين ومن جملتهم معاوية بن أبي سفيان ويزيد بن معاوية وسائر الحكماء الأمويين والعباسيين.

والآن نسأل العقل الذي وهبنا الله تعالى إياه هل الله الذي أرسل رسول الإسلام بآلاف الأحكام السماوية والتشريعات الإلهي وأسس حكومته على التوحيد والعدالة، وبعد الجهود الكثيفة في تعليم القوانين الإلهية وتطبيقها والتضحية لمنع الظلم والفحشاء وأمر الناس ونهيهم، هل يمكن أن يأمر الله الناس أن يطيعوا أتاتورك الذي يقول إنّ الدين غير معترف به في الدولة، مع ما يعرفه الجميع من الظلم الذي ألحقه هذا الطاغية بالمؤمنين وما أتى به من منافيات العفة ومخالفات الأحكام الإلهية؟!

إنّ هذا الإله الذي أقام أساس العدل والدين ثم يخرب الأمر بيده لا يعترف به ذوو الألباب ولا يقرّون له بالألوهية والعدل والإنصاف، فإنّ مقام الألوهية منزّه عن هذا العمل الباطل.

أفهل يقال إنّ الله لم يكن يعلم بأنّ الظالمين سيتسلطون على الحكم وكان يظن أنّهم موافقون له؟!

إنّ هذا خلاف حكم العقل لأنّ من لا يعلم بعباده ليس إلهاً؛ أم يقال إن الله تراجع عن إقامة العدل والتوحيد ودعا الناس إلى الشرك والظلم والفحشاء؟! إنّ هذا أيضاً خلاف حكم العقل ومن كان كذلك ليس إلهاً.

لابد إذاً من القول بأن أولي الأمر ليسوا هم السلاطين والأمراء، ومع ذلك يقول البعض إنّ الله قد أمر بإطاعة معاوية ويزيد لعنهما الله، اللذين يعرفهما الجميع ويعرفون أفعالهما، مما يعني أن جرائم معاوية وقتل يزيد للحسين بن علي والقتل العام الذي أقدم عليه في المدينة، كل هذا هو حكم الله؛ ومن لم يحضر قتل الحسين بن علي كان مخالفاً لله!

ماذا يقول لنا العقل، هذا الرسول الباطني، هنا؟ هل هؤلاء هم أولو الأمر؟ هل يرشد الله الناس إلى هؤلاء الظلمة العابثين أم أنه يقول بأن الإمامة أصل مسلّم وقد ذكر في القرآن، وأمثال هؤلاء الأشخاص من الظالمين لا يليقون بالإمامة أصلاً وليسوا بأولي الأمر؟

وعلى سبيل المثال فقد حرّم الله في القرآن، والنبي في الأحاديث، سفور المرأة والتصرف في الأوقاف فإذا أمر السلطان أو الخليفة بذلك فما هو تكليف الناس حينئذ؟ إن الناس من جهة مأمورون بإطاعة الله والنبي فلا يجوز لهم السفور والتصرف في الأوقاف إذاً، ومن جهة أخرى هم مأمورون أيضاً بإطاعة أمر السلطان، فعليهم السفور والتصرف في الأوقاف! أفٍّ لهذا الجور إذ تُنسب إلى الله هذه التفاهات! أفلا يقول العقل إنّ أولي الأمر يجب أن يكونوا في جميع الأحكام من أول إمارتهم حتى آخر أعمالهم غير مخالفين، قولاً وعملاً لشرع الله والنبي؟ وأن تكون حكومتهم حكومة إلهية موافقة لحكومة النبي كما يتضح ذلك من جعل إطاعة الثلاثة (في الآية المباركة) مقرونة مع بعضها، الأمر الذي يدل على أن الجميع من نبع واحد؟

لقد اختلف الشيعة وأبناء العامة بعد استشهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذين الموضوعين.

ومنذ الأيام الأولى أعلن الخلاف أعظم أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين يحترمهم جميع المسلمين ولم يطعن فيهم أحد، كأمير المؤمنين علي بن أبي طالب والحسن والحسين عليهم السلام وسلمان وأبي ذر وعمار رضوان الله تعالى عليهم وأمثالهم، وأرادوا تنفيذ كلام الله والنبي بشأن أولي الأمر، إلاّ أنّه كان على الدوام تظهر خلال المسيرة البشرية منذ بدء الخليقة، جماعة تشل حكم العقل ويتحكّم فيها الطمع والهوى تدوس على الحق والحقيقة في كل زمان.

وفي ذلك الزمان وجدت مثل هذه الجماعة وقامت بعملها، فكما يشهد التاريخ، بينما كان أولئك الأصحاب المعظمون منشغلين بدفن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انعقدت السقيفة ووصل من وصل إلى الحكومة فبدأ الاعوجاج، وبعد انقضاء عصر الإسلام الأول عاد الحوار بين الطائفتين.

فالشيعة أتباع علي عليه السلام يقولون إنّ الإمامة يحكم العقل بوجوب نص الله عليها، والحكام والسلاطين لا يليقون بها، وأولو الأمر هم علي وأولاده المعصومون بنص من الله تعالى وحديث النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الذين لم يخالفوا الله في قول أبداً، فضلاً عن أنّ رسول الإسلام قد نصّ على أنّ الإمام والخليفة من بعده هو علي بن أبي طالب عليه السلام.

 

شاهد أيضاً

The Warith Magazine Issue 8

– by: The Department of Islamic Studies and Research of The Holy Shrine of Imam …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *