*تأليف: د.حكمت جارح صبر الرحمة
مقدّمة الباحث:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين, والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين, وبعد:
يُعدّ الحديث الشريف المصدر التشريعي الثاني في حياة المسلمين بعد القرآن الكريم, حيث إنّ القرآن يرسم عادةً الخطوط العامّة للمسلمين في جميع جوانب الحياة, وكان غرضه الرئيس هو هداية البشرية.
وقد تكفّل الحديث الشريف ببيان الأحكام والعقائد وما يتعلّق بحياة الفرد والمجتمع بصورة تفصيلية, إلا أنّه ولعوامل عديدة قد تعرّض الحديث إلى التحريف والتغيير والدسّ والتزوير, فكان لزاماً على العلماء الفحص والتحرّي والتدقيق في الأحاديث للتعرّف على صحيحها من سقيمها؛ ليتمّ العمل بالصحيحة والانتهال من معينها وطرح السقيمة وتركها.
فظهرت دراسات مختلفة في علوم الحديث تناول فيها العلماء الحديث من جوانب شتّى سواء من حيث السند أم من حيث المتن, فوُجِدت دراسات في مُشكل الحديث وفي غريب الحديث ومختلف الحديث, وكُتبت كُتب عديدة في علم المصطلح والدراية, وانبرى مجموعة من العلماء لفرز الحديث الموضوع من غيره, فجمعوا الروايات الموضوعة في كتب معيّنة؛ لكي يتمّ تجنّبها وعدم التعويل عليها, وكذا كانت هناك جهود حثيثة في تمييز الحديث الصحيح عن الضعيف.
لكنّ هذه الدراسات مع قيمتها العلميّة, إلاّ أنّ بعضها تأثّر بالتوجّه العقدي, بل والفقهي, فما إنْ تجد أنّ الخبر يفيد إحدى المسائل المختلف فيها, إلا ورأيت الابتعاد عن المنهجية, وعن اتّباع القواعد المقرّرة, وكلّ فريق يجرّ النار إلى قرصه, فمؤيّدوها يسعون بشتّى الوسائل إلى القول بصحّة خبرها, ومخالفوها يتفنّنون في بيان ضعفها.
ولعلّ من أهمّ المسائل التي وقع فيها الخلاف هي الروايات الواردة في مسألة الإمامة والخلافة بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم, إذ انقسمت على إثرها الأمّة الإسلاميّة إلى فريقين, ذهب فريق إلى أنّ الإمامة منصب إلهي يتعيّن عن طريق النص, ولا دخل للبشر مهما بلغت مستوياتهم في تحديده, وذهب فريق آخر إلى القول إنّ الخلافة بعد الرسول إنّما تتعيّن عن طريق الشورى والانتخاب, ويترتب على هذا الخلاف كثير من الأمور المهمّة المتعلّقة بحياة الإنسان المسلم, لعلّ أهمّها هو معرفة المنبع الصحيح والسليم في استقاء العقائد والأحكام الشرعية منه.
وبقي هذا الخلاف مستمراً إلى يومنا الحاضر, وكلّ فرقة ترمي أختها بعدم اتّباع تعليمات النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
فكان من الطبيعي أنْ تجد الكلام الكثير في كلّ خبر ورواية تتعلّق بهذا الموضوع, إذ يدّعي الفريق النافي أنّه لا توجد أدلّة شرعية على الإمامة, لا من القرآن ولا من السنّة, بينما يذهب الفريق المُثبت إلى أنّ الإمامة من صلب التوجيهات الإسلامية, ودلّ عليها القرآن وكذا السنّة.
ومن المؤسف أنّ الحوار العلمي بدأ يغيب عن الساحة, وصار سلاح التشهير, بل التكفير عند بعضهم هو المتّبع, الأمر الذي زاد من هوّة الشقاق بين المسلمين, بل وصل الأمر إلى التقتيل والتهجير لاختلاف المذهب لا غير!
ولعلّ أُولى النقاط التي يمكن أنْ تجمع المسلمين هي العودة إلى الحوار العلمي الهادئ المبتني على الأسس الصحيحة؛ لأنّه سيكشف ما يتبنّاه كلّ فريق من أدلّة أدّت به إلى التمسّك بمذهبه, وعندها يمكن للمخالف من كلّ فريق أنْ يتعايش مع الآخر بناءً على أنّه صاحب دليل ورؤية معيّنة, وغير متمسّك بخرافة ليس لها أصل, وإنْ كان هذا الدليل غير تام عند الآخر, فإنّ الاختلاف أمر بدهي بين الناس أجمعين.
من هنا وقع اختيارنا على دراسة أحد الأحاديث التي وقع فيها الكلام حول سندها ودلالتها بين الفريقين, وهو حديث السفينة (مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح…) حيث يدّعي الشيعة صحّته واشتماله على دلالات عديدة كمرجعيّة أهل البيت وإمامتهم على الأمّة, بينما يدّعي غيرهم ضعفه, بل وعدم دلالته على المقصود, فكان من الضروري إثبات صحّته أوّلاً طبق المباني والقواعد الحديثية التي قرّرها علماء أهل السنّة, ثمّ النظر في دلالاته ليتبيّن صحّة هذا الادعاء من عدمه؛ إذ من البدهي في الحوار أنْ تحتجّ كلّ فرقة على أختها بمصادرها وما تتبنّاه من روايات صحيحة؛ إلزاماً لهم بما يتبنّونه من قواعد وأصول.
وقد تحرّينا في ذلك الموضوعيّة وعدم التعصّب أو التأثّر بميل أو هوى؛ لأنّ الحقّ أحقّ أنْ يتّبع, عسى أنْ يكون هذا الحديث أحد الأدلّة التي تجمع المسلمين أوتقلّل من فجوة الفراق بينهم.