*بقلم: علاء سدخان
هامات عالية امتلأت عزاً وإباءً وهي في أصلاب الرجال وأرحام النساء كانت تفيض بِحُسن الطباع وكمال الصفات وكل ما قيل وما سيقال لم ولن يصل إلى كنه معرفتها.
ومن هذه الهامات الباسقات هامة رفعت على أسِنة الرِماح بأيدي أقل ما يقال عنها إنّها أنتن يد على وجه البسيطة منذ خَلق الكون إلى قيام الساعة.
وللأسف – ونقولها بمرارة – يعتصر القلب اعتصاراً أنْ تستلم تلك الرماح أيادٍ قذرة لتصبح شر خلف لأفسد سلف، فما كان منها إلاّ أن رفعت راية أقلامها المأجورة من الشيطان وأتباعه ليحاولوا بكل ما أوتوا من قوة أن يشككوا أو توهموا أنّ بإمكانهم الإشكال على أروع وأصدق صفحة كتبت في سجل التاريخ تلك صفحة الإباء صفحة عاشوراء الخير.
وقد تستغرب كيف هي صفحة الخير وقد جُندل ابن خير من مشى على البسيطة!!
ليأتي الجواب مسرعاً أنّه لولا تلك الصرخة التي أطلقها الإمام الحسين عليه السلام ضد الظلم (صرخة العصر) لما بقي دين الله ولما بقي ذكر محمد وآل محمد عليهم السلام.
لا شكّ أنّ الثمن غالٍ جداً ولا يمكن لأحد أن يسدّه أو يرد جزءاً من ذلك، لكنّ نتاج تلك الملحمة الشريفة كان يستحق التضحية، وأنّ تلك النتاج والعائد هو أوسع وأكبر من أنْ أسرده في هذه السطور البسيطة.
فأعود وأقول إنّ بعضاً ممن ارتضوا لأنفسهم أنْ يرتموا بأحضان الشيطان وسخّروا أبواقهم (إنْ كانت أقلاماً او أفواهاً) أرادوا جاهدين أن يفرغوا هذه الصفحة العظيمة (القيام الحسيني) من أهدافها الرئيسية وجوهرها الأصلي إلى نزاع من اجل مصالح دنيوية خاصة بين الحسين عليه السلام وبني أمية.
بادئ ذي بدء يجب الإقرار أنّ أيّ فعل يقدم عليه المعصومون صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين هو ليس متعلقاً أو مرتبطاً بمسألة شخصية أو منفعة خاصة بهم وإنّما هو يهدف لمصلحة عامة المسلمين أو رسالة توجيهية لتنقل لسائر الناس وعلى مرّ العصور والمعصوم مسدّد من قبل الباري فعلاً وقولاً، ومن هذا المنطلق فإنّ يوم عاشوراء ثورة قام بها الإمام الحسين عليه السلام؛ ليحافظ على الدين الإسلامي وليحمي كرامة الإنسان ويجعله يعيش في ظل مجتمع نظيف صحيح أراد آل أمية وأذنابهم وأتباعهم من بعدهم أنْ يطمسوا أيّ معلم من معالم الشريعة الإلهية التي جاءت على يد الرسل والأنبياء لتختم بسيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله.
لماذا لم يعمل الحسين عليه السلام بالتقية؟
سؤال هو ليس بالجديد ولكنه يطرح بوجهين:
الوجه الأول يهدف إلى التشكيك بشخصية الإمام والنَيل من قيمة ثورته العظمى وإنّه -وحاشاه – كان مخطئاً متسرعاً بخروجه وأنّه لم يعمل بالتقية.
الوجه الثاني
يحاول معرفة أهداف ونوايا الإمام عليه السلام بهذا الخروج الثوري وهو متيقّن أنّ الإمام على صواب بخروجه ولكن لم يتبادر إلى ذهنه أنّه لماذا الإمام لم يعمل بالتقية في هذا المورد؟
إنّ مبدأ التقية ثابت بالقرآن من الآية الكريمة: {لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ}. [آل عمران:28] وذكرت التقية في سنة آل البيت التي هي سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما قال صادق آل البيت عليهم السلام: «مَنْ تَرَكَ التَّقِيَّةَ قَبْلَ خُرُوجِ قَائِمِنَا فَلَيْسَ مِنَّا».(إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات:5/193)
وفي رواية أخرى قال عليه السلام: «إِنَّ التَّقِيَّةَ دِينِي وَدِينُ آبَائِي وَلاَ دِينَ لِمَنْ لاَ تَقِيَّةَ لَه».(المحاسن للبرقي:1/255)
فمن المعلوم إنّ الحسين عليه السلام عمل بالتقية ولم يتركها حاله حال باقي الأئمة عليهم السلام، ولقد تناول العلماء هذه القضية (خروج الحسين من مكة إلى كربلاء) بعدة إجابات منها انتفاء مورد التقية عليه كون الخضوع لأمر يزيد وبيعته فيه خطر كبير على بيضة الإسلام.
وباستقراء الإمام عليه السلام للساحة والأحداث الدائرة من حوله وبحنكته السياسية وخبرته، وبغض النظر عن العلم الإلهي بالمغيبات آن ذاك عرف أنّه مقتول لا محالة، وعلم أنّه ميت بمكة أو بغيرها من المدن الأخرى، كما ورد عنه عليه السلام قوله: (وأيم الله لو كنت في جحر هامة من الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا في حاجتهم والله ليعتدن علي كما اعتدت اليهود في السبت).
بل إنّه رفض بيعة يزيد من قبل والي المدنية قبل أن تصله كتب أهل الكوفة, وأراد بنو أمية قتله ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة قبل أن تصله كتب أهل الكوفة.
فمسألة قتل الحسين (عليه السلام) أمر غير مرتبط بخروجه وعدمه فهم يريدون منه البيعة وإلاّ فالقتل ولما كان الحسين مصراً على عدم البيعة فمعناه أنّه يقتل في أي أرض كان.
ولمّا كان الإمام أعلم زمانه بالحال الذي وصل إليه المجتمع، فاختار الإمام الأصلح لدينه ولمجتمعه ولإتمام الرسالة المحمدية وللحفاظ على قوام الإسلام بالشهادة ضد الظلم والانحراف.
وقد ورد في كتب السيرة والتاريخ أنّ كبار الصحابة قد عملوا بالأمرين معاً أي العمل بالتقية ورخصتها، فعمار بن ياسر رضوان الله عليه عندما تعرض لأبشع أنواع الحقد الأموي القرشي واستشهد أبوه وأُمّه أمامه ذكر آلهة الكفار بخير ولكن ذلك الذكر كان بلسانه لا بقلبه وأكدت الروايات فيما بعد على أنّ الرسول صلى الله عليه وآله لم يعاتبه على ذلك بل أثنى عليه.
بالمقابل نرى قصة حجر بن عدي رضوان الله عليه المعروفة وكيف أنّ معاوية لعنه الله أراد من حجر أنْ يذكر الإمام علياً عليه السلام بسوء فلم يذكره ولا نعرف الظروف المحيطة بحجر آنذاك، هل أنّه رأى الطريق مسدوداً ولا مجال إلاّ المواجهة مع السلطة أم لا؟
وكذلك ما ذكر عن أبي ذر الغفاري صاحب أصدق لهجة على الغبراء لم يترك الحديث بالسياسة وانتقاده لسياسة عثمان بن عفان وتقريبه آل أُميّة وتصرفه في بيت المال وعاب عليه اغتصاب الخلافة من أهلها ممّا خير بين ترك الحديث وبين النفي، فاختار النّفي والموت غريباً وهو حبيب رسول الله صلى الله عليه وآله ولو كان اختار العمل بالتقية لما عيب عليه ذلك ولا كان عليه إشكال شرعي، وغيرها الكثير من الأمثلة في هذا المجال الذي عمل فيه أهل بيت الرحمة عليهم السلام وأصحابهم رضوان الله عليهم أجمعين.
إنّ صفحة الإباء (واقعة الطف) ما هي إلاّ تتمّة لحروب الرسول صلى الله عليه وآله ضد الكفر والظلم وهي حرب الإسلام كلّه ضد الكفر كلّه، فالإسلام متمثّل بركب آل محمد صلى الله عليه وآله للحفاظ على الإسلام، والكفر كلّه متمثل بالجيش السفياني وحقده الدفين للقضاء على الإسلام.
إذن فالحفاظ على هذا الدين الذي هو خاتمة الأديان السماوية كان لابد من أنْ تسال الدماء الطاهرة ويعاد قربان إبراهيم والظاهر أنّ القربان الأوّل كان قليلاً فجاء قربان عبد الله بن عبد المطلب فقدموا له الأضاحي لفكّ رقبة أبي سيد البشر لكن التضحية قبلت مؤقتاً لينتهي سلسال الأضاحي بفداء ليس مثله لا في السماء ولا في الأرض ذلك هو كبش محمد صلى الله عليه وآله.
من أراد أن يشككّ بقضية الحسين عليه السلام وخروجه يوم الطف فليراجع إسلامه… فالحسين عقيدة غير قابلة للنقاش.