*حيدر الشطري
العقل البشري قبس مقتبس وآلة مستكشفة والآلة لا تدرك قد تصيب وتخطئ في البداية، لكن بعد التجربة وتجارب يمكن استخدام الآلة، وهذا ليس لنقص العقل أبداً، فالعقل كامل ومعصوم بل لجهل العقل بالعلم قبل تعلمه.
فالعلم هو إمام العقل والعقل يأتم بالعلم؛ لذا وضعت الشرعة سابقة للتجربة عن علم لا مجرب فوق التجربة، والعقل خاضع.
فهو أداة النفس والنفس ذات، وأداتها البدن ومزاوجها فيها الروح المازجة بين النفس والبدن.
فالعقل آلة النفس ومرشدها، أمّا الروح محرك النفس في البدن وخارجه، وهي الوعي بدونها الذات.
و(النفس) واعية لا متفكرة والوعي بلا عقل يقظة بلا تدبر والنفس سلطان على عرش آلة البدن، تسوقه بالروح وترشده بالعقل وينبغي أنْ تفتح باب العقل وتسير خلفه.
فالعقل ليس الدماغ إنّما هو باب يفتحه الإنسان ويغلقه متاح لمن أراد وهو مكتسب ومركب ولأنّ النفس ذات تموت في البدن لتحيى خارجه بالروح فتنزع وتجرد من ثوب المادة إلى ما وراء المادة لتلبس قالباً آخر.
فعن يونس بن ظبيان، قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام جالساً فقال: «ما يقول الناس في أرواح المؤمنين؟»، قلت: يقولون تكون في حواصل طيور خضر في قناديل تحت العرش، فقال أبو عبد الله عليه السلام: «سبحان الله! المؤمن أكرم على الله من أنْ يجعل روحه في حوصلة طير، يا يونس، المؤمن إذا قبضه الله تعالى صيّر روحه في قالب كقالبه في الدنيا، فيأكلون ويشربون، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا».(التهذيب:1/466).
وفي حديث آخر عنه عليه السلام قال: «المؤمن أكرم على الله من أنْ يجعل روحه في حوصلة طير، ولكن في أبدانٍ كأبدانهم».(التهذيب:1/465).
عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن أرواح المؤمنين، فقال: «في الجنة على صور أبدانهم، لو رأيته لقلت فلان».(الكافي الشريف:3/245).
إذا لاحظنا تلك روح البدن والقوة التي بها يمشي ويتبع ذاته التي هي النفس فتكون روحه في قالب بدن آخر كقالب الدنيا لكنَّه أسلم وأصح وأجمل وأقوى. (الكافي الشريف:3/244).
إنّ النفس هي التي تذوق الموت بألم عبر أدواتها (البدن والعقل) لأنّها الذات وليس الروح، ويجزع العقل لنزع الروح فتنحل العلقة بين النفس والبدن لخروج الرابط بين البدن والنفس والمزاوج بينهما: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}.[آل عمران:185]
و قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ}.[الأنعام:93]
وقوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (*) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (*) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (*) وَادْخُلِي جَنَّتِي}.[الفجر27-30].
فمدار الإثابة والإنابة والعقوبة والفعل والمديح والهجاء منسوبة للذات وهي النفس لا لأدواتها التي بها تسبح في الوجود هنا وما وراء المنظور.
وقوله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}.[لقمان:34] أي المقصود الذات.
وقوله عزّ وجلَّ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ}.[الزمر:42] فالذوات تنتقل من هنا إلى هناك بعد استيفاء المدة وتهاوي الآلة التي هي البدن وهي دابة النفس تساق بالروح وتسير بالعقل.
وقوله تعالى: {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}.[المائدة:32] وهنا أيضاً يقصد الذات.
وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ}.[الإسراء:33].
وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ}.[النساء:29].
وقوله عزَّ وجلَّ: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ}.[كهف:74].
إنّ النفس لأمارة بالسوء (فالذات أمّارة تحجب العقل؛ لذا علينا السير خلف العقل، فإنْ سار الإنسان خلف الذات والهوى زلّ بعقله وفقد عقله حين الزلة.
لذلك يقال لغير الإنسان من الحيوان إنَّه ذو روح لا ذو نفس لأنّه مسخّر، فالشاة روح وبدن وعقل بلا نفس إذ لم تودع فيها ذات ولولا ذلك ما حلَّ أكلها لذلك حرم ما كان ممسوخاً على صور بعض الأجناس لأنّ تلك فيها نفس مودعة وبغيرها لا أنفس لأنّ تحول الماهية يستلزم بقاء ما هي عليه بمسخ صورها.
ولا وجود لقتل روح أو موت روح أو دخول روح إلى جنة أو إلى نار أو إحيائها أو تزكيتها…. كون الروح هي عامل طاقة وتأييد وتحريك قوله تعالى: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}.[البقرة:87] أي روح التسديد.
وقوله تعالى: {وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ}.[المجادلة:22] أي روح المعرفة والإصابة والعصمة.
وقال تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي}.[الحجر:29] أي من سلطاني.
كما يقول أحدهم سأقوي فلاناً وأنفخ فيه روح القوة والتأييد.
وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ}.[النساء:171] أي تأييد منه لخلقه.
لذا ورد في حديث طويل عن أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب عليه السلام قوله: «…فأمَّا ما ذكره الله جلَّ وعزَّ من السابقين السابقين فإنّهم أنبياء مرسلون وغير مرسلين، جعل الله فيهم خمسة أرواح: روح القدس، وروح الإيمان، وروح القوة، وروح الشهوة، وروح البدن؛ فبروح القدس بعثوا أنبياء مرسلين وغير مرسلين وبها علموا الأشياء، وبروح الإيمان عبدوا الله ولم يشركوا به شيئاً، وبروح القوة جاهدوا عدوهم وعالجوا معائشهم، وبروح الشهوة أصابوا لذيذ المطعم والمشرب ونكحوا الحلال من النساء، وبروح البدن دبّوا ودرجوا، فهؤلاء مغفور لهم، مصفوح عن ذنبهم، ثمَّ قال: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ * مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ * وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ * وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}.[البقرة:253]، ثمَّ قال في جماعتهم {وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ}.[المجادلة:22] يقول: أكرمهم بها وفضلهم على سواهم، فهؤلاء مغفور لهم».(الكافي الشريف:2/214).
أقول: إنّ الروح المزاوج بين النفس والبدن هي عبارة عن تزاوج النفس بأدوات البدن.
أصحاب الميمنة
ثمَّ ذكر عليه السلام أصحاب الميمنة فقال: «وهم المؤمنون حقاً بأعيانهم، فجعل فيهم أربعة أرواح: روح الإيمان، وروح القوة، وروح الشهوة، وروح البدن، فلا يزال العبد مستكملاً هذه الأرواح الأربعة حتى تأتي عليه حالات». فقيل: يا أمير المؤمنين وما هذه الحالات؟ فقال الإمام عليه السلام: «أمّا أوّلهن فما قال الله {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا}[النحل:70]، فهذا تنقص منه جميع الأرواح، وليس بالذي يخرج من الإيمان، لأنّ الله هو الفاعل به ذلك ورادّه إلى أرذل العمر، فهو لا يعرف للصلاة وقتاً، ولا يستطيع التهجد بالليل، ولا الصيام بالنهار، فهذا نقصان من روح الإيمان، وليس بضاره شيئاً إنْ شاء الله؛ وتنقص منه روح الشهوة، فلو مرت به أصبح بنات آدم ما حنّ إليها؛ وتبقى فيه روح البدن فهو يدبّ بها ويدرج حتى يأتيه الموت، فهذا بحال خير، الله الفاعل به ذلك؛ وقد تأتي عليه حالات في قوته وشبابه بهمّ بالخطيئة فتشجعه روح القوة، وتزين له روح الشهوة، وتقوده روح البدن، حتى توقعه في الخطيئة، فإذا مسها انتقص من الإيمان ونقصانه من الإيمان ليس بعائد فيه أبداً أو يتوب فإنْ تاب وعرف الولاية تاب الله عليه وإنْ عاد وهو تارك الولاية أدخله الله نار جهنم». (بصائر الدرجات:470).
أصحاب المشأمة
قال عليه السلام: «أمَّا أصحاب المشأمة فهم اليهود والنصارى، قول الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ…} في منازلهم {…وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} الرسول من الله إليهم بالحق {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} فلمَّا جحدوا ما عرفوا ابتلاهم الله بذلك الذم فسلبهم روح الإيمان وأسكن أبدانهم ثلاثة أرواح: روح القوة وروح الشهوة وروح البدن، ثمَّ أضافهم إلى الأنعام فقال: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} لأنّ الدابة إنَّما تحمل بروح القوة، وتعتلف بروح الشهوة، وتسير بروح البدن». فقال السائل أحييت قلبي. (بحار الأنوار:58/133).
قال الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ الله تبارك وتعالى خلق الخلق ثلاثة أصناف، وهو قول الله تعالى {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}[الواقعة:7-11]، فالسابقون هم رسل الله وخاصة الله من خلقه، جعل فيهم خمسة أرواح، أيدهم بروح القدس فبه عرفوا الأشياء، وأيدهم بروح الإيمان فبه خافوا الله عزَّ وجلَّ، وأيدهم بروح القوة فبه قدروا على طاعة الله، وأيدهم بروح الشهوة فبه اشتهوا طاعة الله عزَّ وجلَّ وكرهوا معصيته، وجعل فيهم روح المدرج الذي به يذهب الناس ويجيئون، وجعل في المؤمنين وأصحاب الميمنة روح الإيمان فبه خافوا الله عزَّ وجلَّ، وجعل فيهم روح القوة فبه قدروا على طاعة الله، وجعل فيهم روح الشهوة فبه اشتهوا طاعة الله، وجعل فيهم روح المدرج الذي به يذهب الناس ويجيئون».(الكافي الشريف:1/272).
وعن الإمام الباقر عليه السلام حينما سئل عن علم العالِم؟ فقال عليه السلام: «إنّ في الأنبياء والأوصياء خمسة أرواح: روح القدس، وروح الإيمان، وروح الحياة، وروح القوة، وروح الشهوة؛ فبروح القدس عرفوا ما تحت العرش إلى ما تحت الثرى»، ثمَّ قال عليه السلام: «إنّ هذه الأربعة أرواح يصيبها الحدثان إلَّا روح القدس فإنّها لا تلهو ولا تلعب».(الكافي الشريف:1/273).
وعن الإمام الصادق عليه السلام حينما سئل عن علم الإمام في أقطار الأرض، وهو في بيته مرخى عليه ستره؟ قال: «إنّ الله تبارك وتعالى جعل في النبيِّ خمسة أرواح: روح الحياة فيها دبَّ ودرج، وروح القوة فيه نهض وجاهد، وروح الشهوة فيه أكل وشرب وأتى النساء من الحلال، وروح الإيمان فيه آمن وعدل، وروح القدس فيه حمل النبوة؛ فإذا قبض النبيُّ انتقل روح القدس فصار إلى الإمام، وروح القدس لا ينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يزهو؛ والأربعة الأرواح تنام وتغفل وتزهو وتلهو، وروح القدس كان يَرَى به».(شرح أصول الكافي:6/72).
وعن الإمام موسى الكاظم عليه السلام قال: «إنّ الله تبارك وتعالى أيّد المؤمنين بروح منه، تحضره في كلِّ وقت يحسن فيه ويتقي، وتغيب عنه في كلِّ وقت يذنب فيه ويعتدي؛ فهي معه تهتز سروراً عند إحسانه، وتسيخ في الثرى عند إساءته، فتعاهدوا عباد الله نعمه بإصلاحكم أنفسكم، تزدادوا يقيناً وتربحوا نفيساً ثميناً، رحم الله امرأً همّ بخير فعمله أو همّ بشرٍّ فارتدع عنه»، ثم قال: «نحن نؤيد الروح بالطاعة له والعمل له».(الكافي الشريف:2/268).
وورد في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام عندما سئل عن الروح في آدم، في قوله تعالى {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي}[الحجر:29]، قال: «هذه روح مخلوقة والروح التي في عيسى مخلوقة».(بحار الأنوار:4/13).
وسئل عليه السلام عن قول الله عزَّ وجلَّ {وَرُوحٌ مِّنْهُ} فقال: «هي روح الله مخلوقة، خلقها الله في آدم وعيسى».(بحار الأنوار:4/12).
وسئل عليه السلام عن قول الله عزَّ وجلَّ {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} كيف هذا النفخ؟ فقال: «إنّ الروح متحرك كالريح، وإنّما سمّي روحاً لأنَّه اشتق اسمه من الريح، وإنّما أخرجه عن لفظة الريح، لأنّ الأرواح مجانسة للريح، وإنّما أضافه لنفسه لأنَّه اصطفاه على سائر الأرواح، كما قال لبيت من البيوت بيتي، ولرسول من الرسل خليلي، وأشباه ذلك، وكلّ ذلك مخلوق مصنوع محدث مربوب مدبر».(الكافي الشريف:1/133)