*بقلم: الشيخ حسين أحمد كريمو
إذا أراد الباحث المدقق أنْ يبحث عن معنى يتداول فيما بين أفراد الأُمَّة، وهو (الأشهر الحُرم) فيتبادر إلى ذهنه السؤال ما معنى الأشهر الحرم، ولماذا سميت بهذا الاسم؟
ولكي لا نضيع الوقت نيمم وجوهنا تجاه كتاب الله الحكيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الكتاب الذي تحدى العرب الأقحاح جميعاً في لغتهم، وفي بلدانهم وفي عقر دارهم ونواديهم التي كانت تفتخر بالمعلقات الذهبية.
ورد في كتاب الله الكريم هذه الكلمة (الحُرُم، والحرام)، في العديد من الآيات، ولكنَّها كانت تنقسم ما بين (المسجد الحرام) وهي الأكثر، وما بين (الشهر الحرام).
والملاحظ أنّه وردت بلفظ (الشهر الحرام) خمس مرات فقط وهي في الآيات المباركات التالية:
قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}.[البقرة:36].
وقال تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}.[البقرة:194].
وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.[البقرة:217].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.[المائدة:2].
وقال تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.[المائدة:97].
كما وردت مرَّة واحدة بلفظ (الحُرُم، والأشهر الحُرُم،) وهي قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.[التوبة:5].
الأشهر الحُرُم
وبنظرة خاطفة على كتب التفسير نجد أنّ (الشهر) (مأخوذ من شهرة أمره لحاجة الناس إليه في معاملاتهم ومحل ديونهم وحجهم، وصومهم، وغير ذلك من مصالحهم المتعلقة بالشريعة).(تفسير التبيان:1/69).
وقال أبو مسلم: { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} أي عدد شهور السنة في حكم الله وتقديره اثنا عشر شهراً، وإنّما تعبد الله المسلمين أنْ يجعلوا سنيهم على اثني عشر شهراً ليوافق ذلك عدد الأهلة ومنازل القمر دون ما دان به أهل الكتاب، والشهر مأخوذ من شهرة الأمر لحاجة الناس إليه في معاملاتهم، ومحل ديونهم، وحجهم، وصومهم، وغير ذلك من مصالحهم المتعلقة بالشهور، وقوله {في كتاب الله} أي فيما كتب الله في اللوح المحفوظ، وفي الكتب المنزلة على أنبيائه، وقيل في القرآن، وقيل في حكمه، وقضائه. (القرآن والتفسي:2/45).
وقوله: {يوم خلق السماوات والأرض} متصل بقوله (عند الله) والعامل فيهما الاستقرار، وإنّما قال ذلك لأنَّه يوم خلق السماوات، والأرض أجرى فيها الشمس، والقمر وبمسيرهما تكون الشهور والأيام وبهما تعرف الشهور.
{منها أربعة حرم} أي من هذه الاثني عشر شهراً أربعة أشهر حُرُم ثلاثة منها سرد (متابعة) ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وواحد فرد وهو رجب.. ومعنى (حُرُم)؛ أنَّه يعظم انتهاك المحارم فيها أكثر ممّا يعظم في غيرها وكانت العرب تعظِّمها حتى لو أنَّ رجلاً لقيَ قاتل أبيه فيها لم يهجه لحرمتها، وإنَّما جعل الله تعالى بعض هذه الشهور أعظم حُرمةً من بعض لما علم من المصلحة في الكفِّ عن الظلم فيها لعظم منزلتها ولأنَّه ربما أدّى ذلك إلى ترك الظلم أصلاً لانطفاء النائرة، وانكسار الحمية في تلك المدة فإنَّ الأشياء تجرّ إلى أشكالها. (مجمع البيان:2/252).
يقول السيد الطباطبائي: (والسَّنة التي ينالها الحس شمسية تتألف من ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً، وبعض يوم لا تنطبق على اثني عشر شهراً قمرياً هي ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوماً تقريباً إلَّا برعاية حساب الكبيسة غير أنَّ ذلك هو الذي يناله الحس وينتفع به عامة الناس من الحاضر والبادي، والصغير والكبير، والعالم والجاهل.
فقوله تعالى: { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا}.. إلخ، ناظر إلى الشهور القمرية التي تتألف منها السنون وهي التي لها أصل ثابت في الحس وهو التشكلات القمرية بالنسبة إلى أهل الأرض.
والدليل على كون المراد بها الشهور القمرية – أولاً – قوله بعد: {منها أربعة حرم} لقيام الضرورة على أنَّ الإسلام لم يُحرِّم إلَّا أربعة من الشهور القمرية التي هي (ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب)، والأربعة من القمرية دون الشمسية). (تفسير الميزان:1/213).
وقال المبرد: (يعنى أنَّ السنة للمسلمين على الأهلة لا على ما يعدّه أهل الكتاب، فسمى الله كلَّ ثلاثين يوماً أو تسعة وعشرين يوماً – عند تجدد رؤية الهلال بعد استسراده – شهراً، وسمى كلَّ اثني عشر شهراً سنة، وعاماً، وحولاً، إذ كان لا ينتظم أمر الناس إلَّا بهذا الحساب، وإجراء الأحوال على مقتضى هذا المثال في جميع الأبواب.
ولما كان سائر الأُمم سوى العرب يجعلون الشهر ثلاثين يوماً والسنة بحلول الشمس أول الحمل، وذلك إنَّما يكون بانقضاء ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً وربع يوم، واليهود والنصارى عبادتهم المتعلقة بالأوقات تجري على هذا الحساب، بيَّن الله أنَّه حكم بأنْ تكون السنة قمرية لا شمسية وأنَّه تعبَّد المسلمين بهذا، فجعل حجهم وأعيادهم ومعاملاتهم وحساباتهم ووجوب الزكوات عليهم معتبرة بالقمر وشهوره لا بالشمس). (فقه القرآن:2/25).
وثانياً: قوله: {عند الله} و قوله: {في كتاب الله يوم خلق السموات و الأرض} فإنَّ هذه القيود تدلُّ على أنَّ هذه العدّة لا سبيل للتغير والاختلاف إليها لكونها عند الله كذلك، ولا يتغير علمه، وكونها في كتاب الله كذلك يوم خلق السماوات والأرض فجعل {والشمس تجري لمستقر لها}، و{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} فهو الحكم المكتوب في كتاب التكوين، ولا معقب لحكمه تعالى.
فمعنى الآية أنَّ عدَّة الشهور اثنا عشر شهراً تتألف منها السنون، وهذه العدَّة هي التي في علم الله سبحانه، وهي التي أثبتها في كتاب التكوين يوم خلق السماوات والأرض، وأجرى الحركات العامة التي منها حركة الشمس، وحركة القمر حول الأرض، وهي الأصل الثابت في الكون لهذه العدة.
ويقول السيد الطباطبائي: (من هنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسرين أنَّ المراد بكتاب الله في الآية القرآن أو كتاب مكتوب فيه عدّة الشهور على حدِّ الكتب والدفاتر التي عندنا المؤلفة من قراطيس وأوراق يضبط فيها الألفاظ بخطوط خاصة وضعية.
قوله تعالى: { مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} الحُرم جمع حرام وهو الممنوع منه، والقيِّم هو القائم بمصلحة الناس المهيمن على إدارة أُمور حياتهم و حفظ شؤونها.
وقوله: { مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} هي الأشهر الأربعة: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، بالنقل القطعي، و الكلمة كلمة تشريع بدليل قوله: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}…، وإنَّما جَعل الله هذه الأشهر الأربعة حُرُماً ليكفَّ الناس فيها عن القتال و ينبسط عليهم بساط الأمن، و يأخذوا فيها الأهبة للسعادة، و يرجعوا إلى ربِّهم بالطاعات والقربات.
وكانت حرمتها من شريعة إبراهيم، وكانت العرب تحترمها حتى في الجاهلية حينما كانوا يعبدون الأوثان غير أنَّهم ربما كانوا يحولون الحرمة من شهر إلى شهر سنة أو أزيد منها بالنسيء الذي تتعرض له الآية التالية {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}. وقوله: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}، الإشارة إلى حُرمة الأشهر الأربعة المذكورة، والدِّين كما تطلق على مجموع ما أنزله الله على أنبيائه تطلق على بعضها فالمعنى أنَّ تحريم الأربعة من الشهور القمرية هو الدِّين الذي يقوم بمصالح العباد). (تفسير الميزان:2/125).
ويستفاد من بعض الرّوايات أنَّ تحريم القتال في هذه الأشهر الحرم، كان مشرّعاً في جميع الديانات والشرائع السماوية ابتداء من شريعة إِبراهيم الخليل عليه السلام، ثمَّ الديانة اليهودية الموسوية، والنصرانية المسيحية إِضافة الى الشريعة الإسلامية الخاتمية، ولعلّ التعبير بـ{ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} إِشارة إلى هذه اللّطيفة، والنكتة الدقيقة الرقيقة، أي أنّ هذا التحريم كان في أوّل الأمر على شكل قانون ثابت، وسنة إلهية لا تتغير في كلِّ الشرائع.
وبعد هذه الجولة السريعة نجد أنَّ العرب سمت هذه الأشهر الأربعة بالأشهر الحُرم، لتعطي فرصة لقبائلها للراحة من الحرب، وقعقعة السلاح، وحمحمة الخيول في الغزو وردّ الغزو المتبادل بينهم، ولتكون فسحة في الزمان والمكان للفكر والعقل والحكمة لحلِّ المشكلات العالقة بينهم.
وهي تشكل ربع السنة، فتكون ربع السنة محرم فيها القتال والاعتداء مهما كانت الأسباب الموجبة لذلك، وكانت العرب تحترم ذلك ولشدة احترامها لهذا القانون كانت إذا أرادت أنْ تنتهك حرمة شهر منها تنسئها (تؤخرها وتؤجلها) لشهر غيره، فتحرم شهراً عوضاً عن الشهر الحرام الذي انتهكت حرمته.
والظاهر من النصوص المتقدمة أنَّ المسألة هي مسألة دينية عقائدية بحتة، متوارثة لا أقل من أبينا إبراهيم الخليل على نبيّنا وآله وعليه السلام وشريعته الحنيفية، ثمَّ حافظت عليها القبائل العربية إلى أنْ جاء الإسلام العظيم وشريعته المباركة على يدي الرسول الأعظم صلَّى الله عليه وآله ونزل القرآن بما تقدم من الآيات الكريمة وتؤكد على عقائدية ذلك { ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}.
المحرَّم في الأُمَّة الإسلامية
لمَّا كانت مسألة الأشهر الحرم هي مسألة عقائدية دينية بحتة، وعادة عربية متوارثة ومحترمة في الجاهلية من قبل الإسلام، وجاء الإسلام العظيم وأقرَّهم عليها وزادها حرمة وعظمة، بما أكدت عليها الآيات والروايات التي أعطتها بعُداً عقائدياً زائداً على ما كانت عليه ومنعتهم من النسيء تقديراً واحتراماً لحرمتها، وسمَّت النسيء زيادة في الكفر، أي أنَّ عدم احترام المحرم كفر، ونسيئته كفر وزيادة لما يحمل من تلاعب بالدين من جهة، واعتداء على حرمات الناس في الشهر الحرام، فصار من حقنا أنْ نسأل؛ هل احترمت هذه الأُمَّة الإسلامية حرمة هذه الأشهر الحرم؟
سؤال مهم جداً حاول طمسه على مدى القرون الإعلام الأُموي الفاجر، الذي كان تحت سيطرة الحكام الفجرة منهم، لعدم إعطاء العلماء الإذن ببيان ما اقترفته أيديهم الآثمة من جرم فظيع، بحيث انتهكوا كلَّ الحرمات في الشهر الحرام، في أيام عاشوراء المأساة الخالدة.. ومن الحرمات التي انتهكوها:
– الحرمة الإلهية؛ لأنَّهم اعتدوا على وليِّ الله وخليفته المنصوب من قبله.
– الحرمة الإسلامية؛ لأنَّهم قتلوا خليفة المسلمين وإمامهم الشرعي، الذي كان أولى الناس بالناس.
– الحرمة القرآنية؛ فهم داسوا القرآن الناطق بحوافر خيول الأعوجية.
– الحرمة العربية؛ لأنَّهم قتلوا ومثلوا برأس العرب وسيدهم، لأنَّهم عبيد روم وليسوا من العرب أصلاً.
– الحرمة العشائرية؛ فهم اعتدوا على ثقل قريش، فقتلوا الرجال وسبوا النساء وهم حرائر بني هاشم فخر قريش.
– الحرمة الإنسانية؛ بحيث ضيقوا على بضعة عشرات وهم ألوف مؤلفة ومنعوا عنهم حتى الماء، حتى كادوا أنْ يموتوا عطشاً، ورغم ذلك هجموا كقطعان الذئاب على أولئك النفر الكرام فقتلوهم جميعاً، بما فيهم النساء والأطفال والشيوخ ولم يرحموا أحداً أبداً.
– الحرمة الحقوقية؛ فكلُّ الشرائع والقوانين منذ القدم تقول بأنَّه للمعركة قوانينها وأخلاقياتها، فللضعيف حرمته، وللطفل، والمرأة، والشيخ الطاعن بالسن، والعبد الرقيق، وحتى للحيوانات حقوقها، فأولئك الجفاة الغلاظ داسوا على كلِّ الحقوق في يوم عاشوراء.
– الحرمة الأخلاقية والأدبية؛ لأنَّ للعرب آداباً وأعرافاً اجتماعية محترمة، كان عليهم أنْ يحترموها ويراعوها في ذلك اليوم الذي تصرفوا فيه كأنَّهم قطعان من الوحوش الكاسرة التي لا تعرف معنى من معاني القيم والأخلاق، فلم يحترموا الأحياء ولا جثث الشهداء حيث تركوهم بعد أنْ مثلوا بهم وأخذوا رؤوسهم إلى سادتهم وقادتهم الأشقياء.
– وكلُّ ذلك جرى في شهر محرم الحرام، الذي حرَّم الله ورسوله والعرب وأعرافهم القتال فيه أشدَّ تحريم.
لماذا يا أُمَّة الحبيب المصطفى صلَّى الله عليه وآله فعلتِ ما لم تفعله أُمَّة من قبل، إلَّا ما فعلته بنو إسرائيل بيحيى بن زكريا على نبينا وآله وعليه السلام؟
هل هذا جزاء رسول الله صلَّى الله عليه وآله فيكم، أو أنّ هذا أجر الرسالة الذي أمركم الله بدفعه بقوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}.[الشورى:23]، هل هذا هو الجزاء الذي طالبكم به ربُّ العالمين؟
أمَا قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله: «المرء يحفظ في ولده»؟ أهكذا تحفظون ولد نبيّكم، تقتلونهم تحت كلِّ حجر ومدر، وتحفظون نساءكم في قصور فارهة، وتسبون بنات رسول الله من بلد إلى بلد على الجمال الهازلة؟
أمَا كان لكم مندوحة عن فعلتكم الشنيعة بابن بنت نبيّكم، لاسيما وأنَّه أعطاكم الكثير من الحلول، بل كلّ الحلول الممكنة، وأنتم تصرون على الذلِّ والإهانة، أو السيف والقتل؟
يا ويلكم – أيّتها العصابة المجرمة – ألم يكن شسع نعل خادمه جون، أو أسلم (واضح) التركي، أو وهب النصراني، أشرف من شرف سيدكم وأميركم ابن مرجانة، وأميره ابن ميسون النصرانية الكلبية؟
ألم تعرفوا مَنْ هذا الإمام الذي تقاتلونه؟
ألم تعرفوا مَنْ هؤلاء الرجال الذين تحاصرون؟
ألم تعرفوا مَنْ هي هذه العائلة الشريفة التي تسبون؟
بلى والله لقد عرفتم، ولكن كفرتم بعد إسلام، وجحدتم بعد علم ويقين، أنَّكم تقاتلون خير أهل الأرض طراً، وخامس أصحاب الكساء، وسيد شباب أهل الجنة، وسبط نبيكم، وابن بنته سيدة نساء العالمين، وابن أميركم وخليفتكم وإمامكم أمير المؤمنين – هذا إنْ كنتم مسلمين أصلاً – وهو إمامكم بالنصِّ الجلي من جدّه، وهو رأس العرب وسيدها دون منازع.
أيّ جرائم اقتُرفت في الشهر الحرام، بحقِّ الإسلام والقرآن والإمام الأطيب الأطهر، على صعيد كربلاء!؟
ونختم هذا المقال المختصر بقول من عالم آل محمّد الإمام الثامن من أئمة المسلمين وهو ما رُوي بعدَّة طرق إلى الشيخ أبي جعفر محمّد بن عليٍّ بن بابويه من أماليه بإسناده عن إبراهيم بن أبي محمود، قال: قال الرضا عليه السلام: «إِنَّ الْمُحَرَّمَ شَهْرٌ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ فِيهِ الْقِتَالَ! فَاسْتُحِلَّتْ فِيهِ دِمَاؤُنَا، وَهُتِكَتْ فِيهِ حُرْمَتُنَا، وَسُبِيَ فِيهِ ذَرَارِيُّنَا وَنِسَاؤُنَا، وَأُضْرِمَتِ النِّيرَانُ فِي مَضَارِبِنَا، وَانْتُهِبَ مَا فِيهَا مِنْ ثِقْلِنَا، وَلَمْ تُرْعَ لِرَسُولِ اللَّهِ حُرْمَةٌ فِي أَمْرِنَا؛ إِنَّ يَوْمَ الْحُسَيْنِ أَقْرَحَ جُفُونَنَا، وَأَسْبَلَ دُمُوعَنَا، وَأَذَلَّ عَزِيزَنَا بِأَرْضِ كَرْبٍ وَبَلَاءٍ، أَوْرَثَتْنَا الْكَرْبَ وَالْبَلَاءَ إِلَى يَوْمِ الِانْقِضَاءِ، فَعَلَى مِثْلِ الْحُسَيْنِ فَلْيَبْكِ الْبَاكُونَ، فَإِنَّ الْبُكَاءَ عَلَيْهِ يَحُطُّ الذُّنُوبَ الْعِظَامَ»، ثمَّ قال: «كَانَ أَبِي إِذَا دَخَلَ شَهْرُ الْمُحَرَّمِ لَا يُرَى ضَاحِكاً، وَكَانَتِ الْكَآبَةُ تَغْلِبُ عَلَيْهِ حَتَّى يَمْضِيَ مِنْهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْعَاشِرِ كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ مُصِيبَتِهِ وَحُزْنِهِ وَبُكَائِهِ، وَيَقُولُ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ الْحُسَيْنُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ». (بحار الأنوار:44/283).