*بقلم: الشيخ حيدر الشمري
كثيراً ما أخذت تتوارد عبارة العودة إلى الذات في الكتابات التي أخذت صبغة نهضوية، والمنفعلة عادة بفكر اليسار الثوري تارةً، والاشتراكي تارةً أُخرى، وتأثراً بتلك الأفكار أخذ المفكرون يرددون العبارات ذاتها، حتى تعالت تلك الأصوات، وعلى الرغم من اعتقادنا بأنَّ تلك الدعوات لا تخلو من فائدة وصوابها في بعض الأحيان، ولكن دعوات العودة هذه لأنّها انطلقت من بيئة مختلفة عن بيئتهم لم تكن ناظرة لجوهر المشكلة، ومتوقفة عند حلول مصطنعة
متذبذبة، متهافتة ذات اليمين وذات اليسار.
وقد تحدث القرآن الكريم مراراً عن العديد من أسباب التراجع الحضاري لهذه الأُمم، وقد بيَّن ماهية أسبابه وقد رسم خريطة من خلال وضع آليات للحدِّ من ذلك التراجع، وفي الوقت نفسه لم يغفل الحديث عن الأُمم التي امتازت بالتقدم
الحضاري مع بيان أهم أسباب هذا التقدم، في محاولة لإعطاء أنموذج يقتدى به من قبل الأُمم الأُخرى قديماً وحديثاً.
وهناك جملة من الأسباب التي تؤثّر على سلوك الإنسان فتحرفه عن طريق الله سبحانه وتعالى وتبعده عن الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها، وفعل الصالحات وحبّ الخير والسعي لمرضاة الله، منها الشيطان الذي حذّرنا
الله من اتباع خطواته الذي لا يأتي مباشرة بل يستدرج الإنسان شيئاً فشيئاً حتى يسقطه في بحر الشهوات والملذات التي يصعب الخروج فقد قال لنا: {أَلَم أَعهْدَ إلَِيكُْم ياَ بنَيِ آدمَ أَن لَّا تعَبْدُوُا الشَّيطَْان إنَِّه لَكُم عَدوٌُّ مبُِّينٌ * وأََنِ اعبْدُوُنيِ هذََٰا صرِاَطٌ مسُّتَْقيِمٌ}. [ يس: 60 – 61 ]
ومنها النفس التي تأمر بالسوء كما قال نبيُّ الله يوسف على نبينا وآله وعليه السلام: {ومََا أُبَرِّئ نفَْسيِ إنَِّ النَّفْس لََأمَّارةٌَ باِلسوُّء إلَِّا مَا رحَِم ربَِّي}. [ يوسف: 53 ]
ومنها الهوى الذي أُمرنا بمخالفته وعدم اتباعه، بقوله تعالى: {و تتََّبِعِ الْهَوىَٰ فَيضُلَِّك عنَ سبَِيلِ اللهِ}. [ ص: 26 ]
وإذا انحرف الإنسان ولم يستمع لأوامر الله جلَّ وعلا ولم يصغِ لضميره وارتكب المحرمات فإنّ الله وهو اللطيف لم يترك هذا الإنسان هكذا ليضيع، فهو أرأف بعباده من أنفسهم كما قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله، وبيّن لهم
في العديد من الآيات أنّ طريق العودة إلى الفطرة السليمة مفتوح لهذا الإنسان متى ما توجه العبد إلى ربِّه ولم ينسَ العهد بينه وبين خالقه، فإنّ من شأن الذنوب أنْ تبعد العبد عن طريق السعادة الأبدية الذي جعله الله لمن امتثل لأوامره واجتنب معاصيه، فإذا ما تاب توبة نصوحاً فإنّه سوف يعود إلى تلك الفطرة وإلى الذات، بل وأكثر من ذلك تكفل بمحو السيئات عنه، وقد جاءت الآيات المباركات واحدة تلو الأُخرى وهي توضّح كيفية سلوك هذا الطريق والمضي في هذا المشوار، وهنا تأتي عدّة أسئلة منها:
ما هي التوبة؟ وما هي ضرورة التوبة؟ وهل هناك مراحل لهذه التوبة؟
التوبة هي الرجوع من الذنب، ولن يكون هناك رجوع إ إذا جاء معه ندم على هذا الفعل فكما ورد في الحديث «كفى بالندم توبة ». (الكافي الشريف: 10 / 157 ).
من مصاديق الندم، هو الإقرار بالذنب، والاعتراف بالخطأ. فعن عليِّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن علي الأحمسي، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «والله ما ينجو من الذنب إلا من أقرّ به ».
وعن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عمّن ذكره، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «…ما أراد الله تعالى من الناس إلا خصلتين: أنْ يقروا له بالنعم فيزيدهم وبالذنوب فيغفرها لهم ». (الكافي الشريف: 10 / 158 ).
والمراد بالإقرار بالنعم معرفة المنعم وقدر نعمته وأنَّها منه تفضلاً وهو شكر والشكر يوجب الزيادة لقوله تعالى: {لَئِن شَكَرتُْم لََأزِيدنََّكُم}. [ إبراهيم: 7 ]
وبالإقرار بالذنوب الإقرار بها مجملاً ومفصلاً وهو ندامة منها والندامة توبة والتوبة توجب غفران الذنوب ويمكن أنْ يكون الحصر حقيقياً إذ يمكن إدخال كلّما أراد الله فيهما.
وعن عليِّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «إنّ الرجل ليذنب الذنب فيدخله الله به الجنة »، قلت: يدخله الله بالذنب الجنة؟
قال: «نعم إنَّه ليذنب فلا يزال منه خائفاً ماقتاً لنفسه فيرحمه الله فيدخله الجنة ». (الكافي الشريف: 10 / 157 ).
وعن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن معاوية بن عمار قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: «…ما خرج عبد من ذنب بإصرار وما خرج عبد من ذنب إلا بإقرار ». (الكافي الشريف: 10 / 159).
وعن الحسين بن محمد، عن محمد بن عمران بن الحجاج السبيعي عن يونس بن يعقوب، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: «من أذنب ذنباً فعلم أنَّ الله مطلع عليه إنْ شاءعذبه وإنْ شاء غفر له وإنْ لم يستغفر ». (الكافي
الشريف: 10 / 158 ).
أقول: لعلّ المراد به العلم الذي يؤثر في النفس ويثمر العمل وإلا فكلُّ مسلم يقر بهذه الأُمور ومن أنكر شيئاً من ذلك فهو كافر ومن داوم على مراقبة هذه الأُمور وتفكر فيها تفكراً صحيحاً لا يصدر منه ذنب إ نادراً ولو صدر منه يكون بعده نادماً خائفاً فهو تائب حقيقة وإنْ لم يستغفر باللّسان ولو عاد إلى الذنب مكرراً لغلبة الشهوة عليه ثم صار خائفاً مشفقاً لائماً نفسه فهو مفتن تواب.
وعن أحمد بن خالد، عن محمد بن عليٍّ، عن عبد الرحمن بن محمد بن أبي هاشم، عن عنبسة العابد، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «إنّ الله يحب العبد أنْ يطلب إليه في الجرم العظيم ويبغض العبد أنْ يستحف بالجرم اليسير .»
(الكافي الشريف: 10 / 157 ).
وقيل: (أن يطلب) أي أنْ يطلب أو هو بدل اشتمال للعبد وتعدية الطلب ب(إلى) لتضمين معنى التوجه ونحوه.
عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن إسماعيل بن سهل، عن حماد عن ربعي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «قال أميرالمؤمنين صلوات الله عليه: إنَّ النّدم على الشرِّ يدعو إلى تركه ». )(الكافي الشريف: 10 / 159 ).
وعن عليِّ بن الحسين الدقاق، عن عبد الله بن محمد، عن أحمد بن عمر عن زيد القتات، عن أبان بن تغلب قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: «ما من عبد أذنب ذنباً فندم عليه إلَّا غفر الله له قبل أنْ يستغفر وما من عبد أنعم الله عليه نعمة فعرف أنّها من عند الله إلَّ غفر الله له قبل أنْ يحمده ». (الكافي الشريف: 10 / 160 ).
فالندم يعبّر عن يقظة الضمير، وهو يعبر عن عودة التائب إلى ذاته وفطرته التي فطر عليها يوم خلقه الله سبحانه وتعالى وأودع فيه كلَّ هذه المحركات والموجهات نحو فعل الصالحات، ولعلَّ هذا ما يعكس وجهة نظر المفكرين الإسلاميين حينما يرون أنّ الخير أقدم صفة من الشر في داخل الإنسان، وهو عكس ما يعتقده الكثير من المفكرين الغربيين امتداداً لأفكار فلاسفة اليونان إذ اعتقدوا بأصالة الشرِّ في الإنسان فهو يخلق وفي داخله نزعة الشرّ فالندم يمثل بداية الرجوع عن الذنب، وهو عكس الإصرار.
وينبغي أنْ نلتفت إلى وجوب المبادرة إلى التوبة فإنّ الأمراض القلبية حالها على أقل التقادير كحال الأمراض البدنية، فالمرض إذا انتشر في الجسم يكون علاجه أصعب ممّا لو كان في بدايته، وقد أشار القرآن إلى هذه النقطة المهمة إذ قال: {وسَاَرِعوُا إلَِىٰ مَغْفِرةَ مِّن رَّبِّكُم وجََنَّة عَرضُْهَا السَّمَاواَت واَلَْأرضْ أُعدَِّت للِْمتَُّقيِن}. [ آل عمران: 133 ]
وفي آية أُخرى قال: {ياَ أَيهُّاَ الَّذيِن آمنَوُا تُوبوُا إلَِى اللَّه توَبْةًَ نَّصوُحًا}. [ التحريم: 8 ]
والتوبة النصوح هي المعالجة السريعة الفورية للخطأ والعودة إلى طريق الصواب.
ومن هنا يأتي السؤال هل أنَّ هناك توبةً تختلف عن الأُخرى أم أنّها واحدة في كلِّ الأحوال؟
فقد دلَّت الآيات وكذلك الروايات على أنّ لها حقيقةً واحدةً ولكنَّها قد تختلف من شخص لآخر، كما هو حال كلِّ فعل يأتي به الإنسان تقرباً إلى الله فقد يختلف من شخص لآخر حسب درجة اعتقاد وإيمان فاعل الفعل بضرورة هذا الفعل وأهميته، كما في قوله تعالى: {ياَ أَيهُّاَ الَّذيِن آمنَوُا تُوبوُا إلَِى اللَّه توَبْةًَ نَّصوُحًا}.[ التحريم: 8 ]
إذ هناك توبة نصوح وأُخرى ليست بنصوح وإنّما هي مجرد ندم في لحظة من اللحظات سرعان ما تزول عنه ويعود إلى سابق عهده كما هو حال أغلب الناس، وقد سئل للإمام أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب عليه السلام عن التوبة النصوح، فقال: «نَدَمٌ بِالْقَلْبِ وَاسْتِغْفَارٌ بِالْلِسَانِ وَالْقَصدُْ عَلَى أنْ لاَ يَعُودَ ». (تحف العقول: 210 ).
فالتوبة النصوح هي على ثلاث مراحل لابُدَّ للتائب أنْ يقطعها ليكون قادراً على ترك الذنوب، فحقيقة التوبة هي الرجوع إلى الله بعد الإعراض عنه، أو الرجوع إلى الصراط المستقيم بعد الانحراف عنه، ولذلك لابُدَّ أنْ يكون واضحاً ومدركاً من قبل التائب أنّ الابتعاد عن الله والانحراف عن سبيله خسران كبير لا يعدله خسران آخر وإلَّ فكيف يدرك أهمية التوبة، ومن هنا تبدأ حالة يقظة الضمير أو العودة إلى الذات حينما يبدأ بالندم على الذنب الذي أذنبه
والانحراف الذي بدر منه.
هناك مراحل ثلاث هي التي تحقق التوبة الصادقة النصوح وهي:
المرحلة الأُولى: هي مرحلة يقظة الضمير، والشعور المذنب بانحرافه فيندم على معصية الله، وتعرضه لسخطه وعقابه، وحسب تعبير الإمام أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام «ندم بالقلب » والتي تؤدي إلى الاستغفار باللسان.
أمّا المرحلة الثانية: هي مرحلة الإنابة إلى الله عزَّ وجلَّ، والعزم على طاعته وترك عصيانه، وفيها يجب الاستغفار والقصد على أنْ لا يعود كما في حديث أمير المؤمنين عليه السلام.
والمرحلة الثالثة: هي مرحلة تصفية النفس من رواسب الذنوب وتلافي سيئاتها بالأعمال الصالحة، وفي هذه المرحلة يلتزم عملياً بالابتعاد عن الذنوب التي ارتكبها ويحاول محو آثارها بالحسنات إذ {إنَِّ الحْسَنَاَت يذُْهبِنْ السَّيِّئَات}. [ هود: 114]
بقي سؤال واحد وهو كالآتي:
ما لمن تاب من الذنب عند الله سبحانه وتعالى؟ إذ هناك الكثير من الآثار للتوبة فقد تعهد ربُّنا بغفران الذنوب فقال: {وإَنِِّي لَغَفَّارٌ لِّمنَ تاَب وآَمنَ وعَمَلَِ صاَلحًِا ثُمَّ اهتَْدىَ}. [ طه: 82 ]
وفي آية التوبة النصوح ذكر الكثير من هذه الآثار فقال تعالى: {عسَىَ ربَكُُّم أَن يكَُفِّر عنَكُم سيَِّئَاتكُِم ويَدُخْلَِكُم جنََّات تجَرِْي منِ تحَتْهِاَ الَْأنهْاَر يوَمْ لَ يخُْزِي اللهُ النَّبِيَّ واَلَّذيِن آمنَوُا معَهَ نُورهُمُ يسَعْىَ بيَنْ أَيدْيِهِم وبَأَِيمْاَنهِِم يقَُولُون ربََّناَ أَتمْمِ لَناَ نُورنَاَ واَغْفرِ لَناَ إنَِّك علََى كُلِّ شيَءْ قَديِرٌ}. [ التحريم: 8 ]
فآثارها هي: غفران الذنوب والسيئات، ودخول الجنة المملوءة بالنعم، وعدم الفضيحة في ذلك اليوم العصيب الذي ترتفع فيه الحجب وتظهر فيه حقائق الأشياء، لهم نور خاص بهم بين أيديهم وبأيمانهم ليضيء طريقهم إلى الجنة، ويتجهون إلى الله سبحانه وتعالى أكثر ممّا كانوا سابقاً، ويرجون تكميل نورهم والغفران الكامل لذنوبهم.
ووعد الله المذنبين حتى وإنْ كانوا مسرفين أنْ يغفر لهم ذنوبه فقال لهم: {قُلْ ياَ عبِاَديِ الَّذيِن أَسرْفَُوا علََىٰ أَنفُسهِِم لَا تقَْنطَُوا منِ رَّحمْةَ اللهِ إنَِّ اللهَ يغَْفرِ الذُّنُوب جمَيِعًا إنَِّه هوُ الغَْفُور الرَّحيِم}. [ الزمر: 53 ]
وكما ورد عن الإمام الرضا عن آبائه عليهم السلام أنَّه قال: «قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله: التائب عن الذنب كمن لا ذنب له ». (ميزان الحكمة: 1/ 511 ).
وورد أيضاً عن النبيِّ الأكرم صلَّى الله عليه وآله أنّه قال: «ليس شيء أحبّ إلى الله من مؤمن تائب، أو مؤمنة تائبة». (بحار الأنوار: 6/ 21 ،ح 15 ).
وإذا كانت التوبة هي عودة إلى الذات وإلى فطرة الله التي فطر الناس عليها، أو هي عودة إلى الله فإنّ الله يحبُّ التوابين العائدين إليه، ويرتب على توبتهم الكثير من الآثار في الحياة الدنيا والآخرة، فينبغي المسارعة لها لا تأخيرها فلعلَّ العمر ينقض الساعة.