البحث في فهارس المكتبة:

أنت (حكاية كبيرة)!

الزاوية الأدبية
أنت حكاية كبيرة

كنت مسافراً إلى الخرطوم على الطائرة السودانية منذ حوالي عشر سنوات، فأضيئ الضوء الأحمر، وربطنا الأحزمة وتحركت الطائرة ببطء إلى ممر الاقلاع ثم توقفت وارتفع أزيز محركاتها تمهيداً لاندفاعها السريع الذي يحقق لها عملية الارتفاع والطيران.. وحبست أنفاسي (كالعادة) إنتظارا لهذه اللحظة الحاسمة التي ينخلع فيها قلبي مع اللحظة التي تفارق فيها عجلات الطائرة الأرض. والتي لم استطع رغم اعتيادي السفر أن أتخلص من رهبتها أبداً وأستعين عليها دائما بالتمتمة ببعض آيات القرآن الكريم وأحبها إليَّ في هذه اللحظة الآية الكريمة التي تقول {..فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (يوسف/64)، وآية الكرسي التي أعيد ترديد آخرها {..وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (البقرة/255) عدة مرات وغيرهما.

وكنت في تلك اللحظة أتمتم بما أقرأ حين فوجئت بصوت الطيار يتحدث إلى الركاب على غير العادة ويبدأ حديثه بالآية الكريمة: {…سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} (الزخرف/13)، فتوقفت عن تمتمتي مذهولاً وتعجبت من نفسي كيف لم تخطر بذهني هذه الآية الكريمة من قبل في مثل هذه المناسبة على كثرة ما سافرت؟!.. بل وكيف لم أتوقف خلال سفري مرة لأتأمل هذه الحقيقة وهي: أن الله – جلّ شأنه – قد سخّر لنا (هذا).. وما كنا له (مقرنين) أي مطيقين وقادرين على ضبطه والتحكم فيه واستغرقت في تأملاتي.. وهدأت نفسي وأصبحت هذه الآية الكريمة منذ ذلك اليوم من (مختاراتي) المفضلة عند إقلاع الطائرة أو ركوب السيارة أو الإبحار في سفينة، وستكون كذلك بكل تأكيد إذا أتيح لي ذات يوم أن اركب صاروخاً أو محطة فضاء إلى القمر.

وتفكرت طوال الرحلة في معناها.. وتساءلت.. وبأي شيء سخر لنا الله (هذا) وماذا كانت الوسيلة؟ وأجبت نفسي بأنها عقل الإنسان الذي وهبه الله له.. وإرادته التي أشعل جذوتها في روحه. وازداد اقتناعي بما أؤمن به دائما. من أن الإنسان هو أرقى الكائنات الحية وأكرمها على ربه، وخليفته في أرضه الذي سخر له كل ما فيها وما في السماوات أيضاً.

وينبغي أن يكون دائماً كريماً عند نفسه وعند الآخرين، فأنت مهما كان شأنك تستحق كل الاحترام. لمجرد أنك إنسان ولأنك إنسان بنفخة من روح الله فيك. ألم يقل الله لملائكته حين أراد خلق آدم عليه السلام (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقّعوا له ساجدين)؟ إنك من سلالة هذا الجد العظيم الذي سجدت له الملائكة.. واستخلفه ربه ونفخ فيه من روحه جذوة مقدسة لا تنطفئ إلا عند الرحيل، بل ووهبه أيضاً مواهب وقدرات وطاقات عقلية ونفسية ما لو عرف كيف يستخدمها أفضل استخدام لحقق لنفسه ما أراد.. ولأضاف إلى الحياة كل يوم جديدا.. ولجعل من كوكب الأرض.. “فتنة للأنظار ” على حد تعبير الكاتب الروسي انطون تشيكوف، فالإنسان يستطيع- حقا- أن يفعل الكثير إذا لم يستسلم للإحساس بالعجز وتفاهة الشأن. وابسط ما يستطيعه إذا خلت يدأه من أية موهبة أو إمكانيات، هو أن يكون (إنسانا) كما أراد الله له أن يكون فيتعامل مع الحياة والآخرين بشرف، ويؤدي عمله بأمانة، ويلتزم بالفضائل وينشر الخير حوله ولو بالكلمة الطيبة. ويعادي الشر.. والقبح وينشر الحق والجمال.. وأي إنجاز أعظم من (تجميل) الحياة بوجود الخيرين فيها..؟ ومن تذكير الآخرين بتصرفاتك الأمينة أن الإنسان الشريف لا يكون تافها أبدا مهما كانت ضآلة شأنه! لقد كان أحد الفلاسفة يقول كن (كاملا) في عالم فاسد.. تكتمل الحياة من حولنا بالتدريج وتتجه ببطء نحو مثلها الأعلى، وأنت تستطيع بلا شك أن تدفعها في هذا الاتجاه بمجرد أن تكون (إنسان) لا يسلم قياده لغرائزه وشهواته وأنانيته ونوازع الشر وإغراءاته.

أما إذا أردت أن تضيف المزيد إلى الحياة.. فلا حد ولا نهاية لما يستطيع عقل الإنسان وإرادته أن يفعلا!

لقد قال الكاتب الأمريكي اميرسون: انه ليس هناك عظماء وأشخاص عاديون.. وإنما هناك أشخاص يلهبون الجذوة المقدسة التي نفخها الله في أرواحهم.. فترتفع بهم إلى ما يريدون وآخرون يتركونها تذوي وتذبل ويستسلمون لفشل الروح.. والعجز.. والكسل ويقولون دائما؟ وماذا نستطيع أن نفعل وحدنا ولسنا سوى أفراد عاديين؟!

والعقلاء لا يطالبوننا بالمستحيل الذي لا تسمح به قدراتنا، و إنما يطالبوننا فقط بألا نبادر بالإقرار بعجزنا عما نريد قبل أن نحاول بكل جدية وإخلاص وصلابة أن نحققه، فإذا عجزنا عنه بعد ذلك فقد نلنا شرف المحاولة.. ورضينا عن أننا لم نقصر في حق أنفسنا ولا في حق الحياة، وكسبنا خلال محاولاتنا المضنية دروسا أضافت لخبرتنا الجديد والثمين.

فأخطر ما يشمل روح الإنسان وإرادته.. هو الإقرار بالعجز قبل بدء المسيرة.. ولو أقرَّ به كثيرون قبل البداية لما أصبحوا عظماء، ولما حفروا أسماءهم في سجل التاريخ ولما أضافوا ما أضافوه إلى الحياة.

لقد عاد طفل صغير في السادسة من عمره إلى أمه ذات يوم يحمل خطابا من المدرسة تنصح فيه الأم بإبقائه في البيت بلا تعليم لغبائه!

وقرأت الأم المثقلة بالأبناء وأعباء الأسرة الرسالة فلم تبك ولم تنتحب.. وإنما هزت رأسها وقالت بإصرار: إبني ليس غبيا.. بل هم الأغبياء.. وسوف أعلمه بنفسي في البيت.. وعلمته بالفعل وبصبر وإصرار.

فأهدت للبشرية (توماس اديسون) بكل ما أضافه للحياة من مخترعات سهلتها على البشر وزادت من استمتاعهم بها. نرى إذن ماذا كان يمكن أن تكون عليه الحياة الآن لو استسلمت هذه الأم البسيطة أمام مشكلة ابنها وأقرت بعجزها عن مساعدته؟!

بل ماذا كان يمكن أن تكون عليه الحياة الآن.. لو استسلمت مدام كوري لعجزها وقلة حيلتها بعد وفاة زوجها وقالت لنفسها ما أنا إلا أرملة كسيرة الجناح. سأعجز عن أن أتم ما بدأه زوجي.. ولم تواصل عملها ولم نعرف الراديوم وما ترتب عليه فيما بعد من إنجازات علمية وطبية عديدة؟

الزاوية الأدبية1
أنت حكاية كبيرة!

لقد كان نابليون بونابرت يقول ساخرا من حجج المتقاعسين: ما هي (الظروف) هذه التي يمكن أن تعترض طريق إنسان له إرادة؟ إنني أنا الذي أصنع (الظروف) التي تمهد لما أريد.. وليست الظروف هي التي تصنعني.. وبهذه الإرادة الحديدية أصبح سيد أوروبا كلها في بعض الأوقات.

وليس كل إنسان مطالباً بأن يصبح سيد قارته.. لكنه مطالب – فقط – بأن يكون كالشاعر الألماني (جوتة) حين وصف نفسه قائلا: أنا كنجوم السماء لا تمضي في عجلة لكنها تسير سيراً دءوبا لا يعرف السكون!

وهذا فعلا ما ينبغي لكل إنسان يرفض أن يكون عبئا على الحياة حتى اللحظة الأخيرة. فالسكون هو الموت والعجز والفشل.. والحركة ولو كانت بطيئة هي الحياة والسعي الدءوب إلى سعادة الإنسان وخير البشر.

لقد ظل الرسام الفرنسي العظيم (رينوار) يرسم حتى عجز في شيخوخته عن الإمساك بالفرشاة فكان يثبتها في معصم يده بشريط لاصق ويواصل الرسم بلا هوادة، وهو يشكر ربه لأنه لم يفقد بصره كما حدث لصديقه الرسام المبدع أيضاً (ديجا).

وأصيب الفنان الاسباني العظيم (جويا) بمرض خطير أفقده السمع والبصر والقدرة على الحركة لعدة شهور متواصلة ثم برأ من المرض ولازمه الصمم بعد ذلك للنهاية.. فانطلق يرسم ويبدع حتى آخر يوم في حياته وهو يشكر ربه لأن آفته لا تعوقه عن أداء عمله.

والفنان المصري العظيم أحمد صبري صديق العقاد وطه حسين والحكيم وأول أستاذ مصري بكلية الفنون الجميلة ظل يرسم والظلام يزحف على بصره تدريجيا حتى عجز عن رؤية موقع ريشته على اللوح فوضع ريشته ومات بعد أيام شاعراً بأن مهمته في الحياة قد انتهت بعجزه عن مواصلة العمل والإبداع.. وبيتهوفن أصيب بالصمم فلم يمنعه صممه من مواصلة الإبداع وتأليف الموسيقى التي لا يسمعها وعزف النغمات التي لا يعرف صداها.

والإنسان الحق الذي يستحق اسم الإنسان وصفته لا يمكن تحطيمه لأن قدراته لا حد لها.. ولأنه كائن فريد لا مثيل له بين بلايين الكائنات التي عرفتها الأرض.. وقد خلقه ربه كما قال أحد العلماء (بدقة تثير الرهبة في النفوس) لو اطلع البشر على بعض أسرارها.

فصدقني حين أقول لك: أنت (حكاية كبيرة) جدا.. لكنك لا تعرف أحياناً قدر نفسك.. ولا تجيد في أحيان أخرى استخدام قدراتك ومواهبك.. وخسارة ألف مليون خسارة.. أن تتنازل عن عرشك الذي أجلسك عليه ربك بالاستسلام لخوّر الإرادة.. أو العجز والكسل.. أو الفشل أو اليأس.. أو نوازع الشر التي لا تليق بمن سجدت لجدِّه الملائكة مثلك، وبمن ينبغي أن يكون دائماً موضع التكريم والاحترام.. لأنه إنسان!

شاهد أيضاً

The Warith Magazine Issue 6

– by: The Department of Islamic Studies and Research of The Holy Shrine of Imam …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *