أحبب حبيبك هونا مّا
قال عليه السّلام: « أحبب حبيبك هونا مّا ، عسى أن يكون بغيضك يوما مّا، و أبغض بغيضك هونا مّا، عسى أن يكون حبيبك يوما مّا» . عدّه أبو هلال العسكريّ من الأمثال في جمهرته.
و من أجود ما قيل في هذا المعنى قول بعضهم: (لا تكن مكثرا، ثم تكون مقلاّ، فيعرف سرفك في الإكثار، و جفاؤك في الإقلال) .
والهون بالفتح: التّأنّي. و البغيض: المبغض.
و خلاصة هذه الكلمة: النّهي عن الإسراف في المودّة و البغضة، فربّما انقلب من تودّ فصار عدوّا، و ربّما انقلب من تعاديه فصار صديقا. و قال بعض الحكماء: توقّ الإفراط في المحبّة، فإنّ الإفراط فيها داع إلى التّقصير منها، و لأن تكون الحال بينك و بين حبيبك نامية، أولى من أن تكون متناهية. . و قال الشّاعر:
و أحبب إذا أحببت حبّا مقاربا ***** فإنّك لا تدري متى أنت نازع
و أبغض إذا أبغضت غير مباين ***** فإنك لا تدري متى أنت راجع
و قال عديّ بن زيد:
و لا تأمنن من مبغض قرب داره ****** و لا من محبّ أن يملّ فيبعدا
و قد جاء: «عثرة الاسترسال لا تستقال» .
إذا كان الحبّ مع اللّه عزّ و جلّ، فأحبب حبّا إلى الغاية بدون تقليل بل إلى حدّ العشق، و هو الحبّ المفرط، و أبغض الشّيطان، و النّفس الأمّارة، و ما يصدّك عن اللّه تعالى بغضا إلى الغاية.
اختطاف الذّئب الأزلّ دامية المعزى الكسيرة
من كتاب له عليه السّلام لابن عمّه ابن عبّاس، استنكارا لأخذه من بيت المال، حينما كان واليا من قبله على البصرة، و فيه: «فلمّا أمكنتك الشّدّة في خيانة الأمّة، أسرعت الكرّة، و عاجلت الوثبة، و اختطفت ما قدرت عليه من أموالهم المصونة لأراملهم و أيتامهم اختطاف الذّئب الأزلّ دامية المعزى الكسيرة ، فحملته إلى الحجاز رحيب الصّدر بحمله غير متأثّم من أخذه…» .
الذّئب الأزلّ: الخفيف الوركين، و ذلك أشدّ لعدوه، و أسرع لوثبته، و إن اتفق أن تكون شاة من المعزى كسيرة و دامية أيضا، كان الذّئب على اختطافها أقدر.
و الأزلّ في الأصل: الصّغير العجز، و هو في صفات الذّئب الخفيف. و قيل: هو من قولهم: (زلّ زليلا) إذا عدا.
و إنّما خصّ الدّامية دون غيرها، لأنّ في طبع الذّئب محبّة الدّم، فهو يؤثر الدّامية على غيرها، و يبلغ به طبعه في ذلك أنّه يرى الذّئب مثله و قد دمى، فيثب عليه ليأكله. قال الشاعر: (من الطّويل)
فكنت كذئب السّوء لمّا رأى دما ***** بصاحبه يوما أحال على الدّم
و المعز: الشّاة من الغنم خلاف الضّأن، و خصّ الإمام عليه السّلام الكسير منه لخروج الدّم الّذي يختطفه من أجله. و إنّما اختار عليه السّلام كلمة (الاختطاف) ، للسّرعة المأخوذة في معناها: أي الأخذ بسرعة، و منه البرق الخاطف. يقول عليه السّلام: يابن عبّاس! قد أخذت الأموال من غير حلّ، إذ هي لليتامى و الأرامل، برحب الصّدر منك في استلابها و حملها إلى الحجاز، لصرفها فيما تشتهي بلا احتشام و لا خوف من اللّه و لا منّي و لا من ذويها، و ليس اختطافك لها إلاّ كاختطاف الذّئب الوثّاب المعز الدّامي الكسير السّهل التّناوش، اعتداء القويّ على الضّعيف، و منه يعرف حال الأقوياء المعتدين على من دونهم بلا اختصاص بابن عبّاس. فمن شاء أن يكون ذئبا عاديا فليفعل فعله و ليختطف، إلاّ أن يتوب و يردّ مظلمة العباد.