البحث في فهارس المكتبة:

أدب التخاطب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم

القرأن والتفسیر
أدب التخاطب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم

قال تعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (البقرة/104).
يعلّم القرآن الكريم المسلمين أدب المحاورة والتخاطب مع النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، فقسم من هذه الآداب يرتبط بثقافة المسلمين أنفسهم، وقسمها الآخر هو لتجنّب سوء استغلال الآخرين. ففي القسم الأوّل ومن أجل أن لا يعتبر المسلمون النبي صلى الله عليه وآله وسلم شخصاً عاديّاً فهو يوصيهم بعدم رفع أصواتهم بحيث تمسي أعلى من صوته صلى الله عليه وآله وسلم، لأنّ تصرّفاً كهذا يعدّ تجاسراً وهو من عوامل إحباط أعمالهم الصالحة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}. (الحجرات/2)
وهذا الحكم لا يختصّ بفترة حياته الظاهرية والدنيوية صلى الله عليه وآله وسلم بل وحتّى في جواب قبر هذا النبي العظيم لا ينبغي التكلم بصوت مرتفع.
ثمّ يعمد إلى تبيين فضيلة المراعين لحريم هذه الحضرة وحضوره صلى الله عليه وآله وسلم بالقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}. (الحجرات/3)
ثمّ يقول في الختام أيضاً: إنّ الذين ينادون النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم من خلف الحجرات التي يسكن فيها يُعَدّ أكثرهم من الذين لا يعقلون: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}. (الحجرات/ 4)
أما الآية مورد البحث فإنها تعلّم أسلوب الحوار مع النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في قسمه الثاني، أي الذي يهدف إلى تجنّب استغلال الآخرين؛ إذ إنّ من أهم شؤون الأنبياء هو تلاوة كتاب الله وتعليمه وتبيينه للأمّة، ولمّا كانت قدرات الناس في تلقّيهم للعلوم والمعارف متفاوتة، فإنّ بعض أتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يقولون له مستخدمين كلمة (راعنا): راع حالنا في حديثك وتكلّم بتأنّ وعلى مهل، كي نعي ما تقول ونحفظه أو نسجّله بأيّ طريقة كانت.
لكنّ اليهود الذين يمتازون بالجرأة وتصيّد الفرص جعلوا من هذا القول وسيلة لإهانة رسول الله صلى الله عليه وآله وتحقير المسلمين والسخرية منهم فأرادوا بكلمة (راعنا) شتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكانوا – من خلال ليّ اللسان والتلاعب بالحروف – ينطقونها (راعِيَنا). فطلب الله سبحانه وتعالى من المسلمين أن يختاروا كلمة أخرى لتوضيح مرادهم، ومن أجل ذلك قال: بدلاً من قوله: {راعنا} قولوا: {أنظرنا} كي تزال ذريعة إساءة استغلال اليهود الحقودين العنودين لهذه الكلمة.
لقد بلغ حقد اليهود وعنادهم إلى حدّ أنّهم كانوا يسبّون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مجالسهم ولقاءاتهم الخاصّة، إلاّ أنّ عبارة (راعنا) كانت قد وفّرت لهم ذريعة مناسبة وأرضية خصبة كي يقولوا علانية وبكلّ وقاحة: نحن نسبّ النبيّ بما يسبّه به المسلمون! ومن هذا المنطلق فقد منع الله عزّ وجلّ من قول هذه الكلمة حتّى مع عدم قصد الهتك والإهانة.
والظاهرة المشؤومة التي أشير إليها إجمالاً في الآية محطّ البحث قد طُرحت بمزيد من التفصيل في آية أخرى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا}. (النساء/ 46)
فبعض المحرّفين من اليهود لم يقفوا عند حدّ تحريف التوراة والإنجيل، بل جاوزوه إلى تحريف كلمات المسلمين فافترضوا كلمة: (راعنا) – وهي طلب المراعاة والتأنّي في القول والتي هي مفردة عربيّة – افترضوها عبريّة وأرادوا بها السبّ والشتم.
فقد كان هؤلاء يقولون للنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم {سمعنا} لكنّهم عند اجتماعهم بأصحابهم وأوليائهم يقولون: {عصينا}، أي إنّهم عوضاً عن قولهم: {سمعنا وأطعنا} فقد كانوا يقولون: {سمعنا وعصينا}.
كما أنه من الممكن أن يكونوا قد تلفّظوا بمثل هذا الكلام في غاية الجرأة وعلى نحو علنيّ. ثمّ يقولون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {واسمع غير مُسمَعْ}، أي: اسمع ولكنّك لن تكون سامعاً، يعني: إنّك لا تفقه كلامنا!

القرأن والتفسیر1
فهؤلاء الذين حُرموا بسوء اختيارهم من الحياة والسمع: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ}. (يس/ 70)، كانوا يقولون للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بكل وقاحة: {واسمع غير مسمع} وبهذا الشكل كانوا يجيزون لأنفسهم سبّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتحقيره وإهانته.
هؤلاء كانوا نفس موتى القلوب المقبورين والمدفونين في مقبرة الطبيعة والدنيا الذين يتحدّث عنهم الله سبحانه وتعالى في خطابه لنبيّه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ}. (فاطر/ 22)
أمّا كلام اليهود الآخر فقد كان {راعنا} ولم تكن غايتهم من نطق هذه الجملة طلب المراعاة والمراقبة، بل كان مأربهم إساءة الأدب والتمرّد والطعن في الدين، وبناءً عليه فإنّ الجملة الأولى: {سمعنا وعصينا} قيلت بدافع الإهانة، والجملة الثانية: {واسمع غير مسمع} نُطق بها من منطلق التحقير، أما الجملة الثالثة: {راعنا} فهي لأجل التحقير والإهانة معاً وإنّ الجمل الثلاث سويّة كانت تُقال بهدف الطعن في الدين والتمرّد على الحق.
يقول الباري عزّ وجل: بما أن اليهود أصحاب تحريف وليّ للسان فلا تعطوهم مسوّغا لذلك، فهم في مقابل قولكم: {سمعنا وأطعنا} يقولون: {سمعنا وعصينا}، وفي مقابل قولكم: {واسمع} يقولون: {واسمع غير مسمع} فهم يتفوّهون بما يمليه عليهم باطلهم حبّاً للمخالفة والمعاندة، فلما كان قولكم: {راعنا} يعني بالعربية طلب المراعاة ولكنه يعطي معنى السبّ والشتم في اللغة العبرية وهو يوفر المسوّغ والذريعة في يد اليهود العنودين، فإنّه يتعين عليكم أن تسلبوا الذريعة من أيديهم بأن يقولوا: {أنظرنا} بدلاً من {راعنا}.
ثم يقول عز من قائل: لو أنهم نطقوا الحق وتكلموا بما حسن من الكلام عوضاً عن هذه الكلمات المهينة والتمرد والتلاعب بالألفاظ لكان ذلك خيراً لهم وعاملاً لقيامهم وتقويمهم: {لكان خيراً لهم وأقوم} غير أنّ الله لعنهم بما كفروا فكانت النتيجة أنهم لم يؤمنون إلا قليلاً: و{ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا}.

شاهد أيضاً

The Warith Magazine Issue 6

– by: The Department of Islamic Studies and Research of The Holy Shrine of Imam …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *