ليس غـريبا أن تستأثر مشاركة عقيلة الهاشميين في ثورة الإمام الحسين عليه السلام بالاهتمام، فالثورة – الحدث كانت فـاصلة تاريخية،و يوما من أيام اللّه التي كتب لها الخلود على مدار الزمن.
و لذلك فإن الحديث عن زينب حديث عن الثورة، أو عن دور المرأة المسلمة في الثورة، وفي صناعة الحدث الإسلامي، ولا يعني ذلك أن حياة زينب قد اقتصرت عطاءاتها على الثـورة فقط، وإنما لأنها كانت عظيمة، ولأن حياتها معطاءة كان دورها كبيرا في واقعة الطف.
الثورة و الانتصار القريب
يكاد الباحث يجزم بأن الإمام السبط لم يبحث في خروجه على انتصار قريب، وغلبة على الأعـداء، ففضلا عن الروايات الواردة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعن أمير المؤمنين عليه السلام باستثناء الحسين عليه السلام في كربلاء، فضلا عن ذلك،فإن الإمام السبط ما برح يصرح بهذه النتيجة في حواراته مع بعض الشخصيات الاجتماعية الكبيرة كابن عـباس وابن الزبير وابن عمر، ونراه يكتب إلى أخيه محمد بن الحنفية عندما غادر مكة متوجها إلى العراق «فإن من لحق بي استشهد ومن تخلف لم يدرك الفتح».
و يؤكد هذه النتيجة في خـطاب إلى الناس بعد خروجه من مكة قائلا: «…كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا، فيملأن مني أكراشا جوفا وأحوية سغبا…» ويمضي باتجاه كربلاء على الرغم من مجيء الأخـبار إليه بـاستشهاد مسلم بن عقيل وانقلاب الأوضـاع ضـده في الكوفة.
إن الإمام الحسين عليه السلام والركب الهاشمي معه يعلمون يقينا أنهم لا يسيرون إلى نصر قريب و إنما يسيرون إلى هزيمة عسكرية محققة.
الأهداف البعيدة للثـورة
مـن هـنا كانت الثورة تنشد أهدافا أوسع من لحظتها، إنـها كانت تنظر بعيون قائدها نحو المجتمع الإسلامي آنذاك من أجل تغييره، ونحو الأفق الإسلامي البعيد من أجل وضع أسسه القويمة، وحـماية هذا الأفق من أن تغيب ملامحه بسحب الانحراف وغيوم الوضع والتحريف لسـنة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن أجل أن تحقق الثورة هدفها الاجتماعي، ولتحقيق هدفها الفكري لابد للإمام الحسين من التخطيط الدقيق حتى تـأخذ الثـورة أبـعادها كاملة غير منقوصة، وكذلك فعلوا من بعده أئمة الهدی.
التخطيط الحـسيني
وكان هذا التخطيط قد اعتمد إشراك زينب عليها السلام وحرم آل الرسول في الركب، وكان الإمام السبط واعيا لهذا الإشـراك تـمام الوعي، ولذلك عندما عجز ابن عباس عن ثنيه عن المضي إلى العراق، قال له: إذا لمـاذا تـصطحب النـساء معك، كان رد الحسين عليه السلام عليه: «شاء اللّه أن يراهن سبايا» مكتفيا بهذه الإجابة الرمزية و لم يوضح لابـن عـباس ما لم يدركه من مغزى اصطحاب النساء في ركب الثورة.
بل نجد لقطة تأريخية سـابقة بكثير على حدث الثورة في زمن أمير المؤمنين عليه السلام تدلل على تخطيط مسبق لإشراك الحـوراء في هـذا الحدث التأريخي الخالد، حيث اشترط أمير المؤمنين عليه السلام على عبد اللّه بن جعفر عندما تقدم إلى الزواج مـن زيـنب عليها السلام السماح لها بالخروج مع الحسين عندما يخرج وهذا ما حصل عـندما خـرج الحـسين ليصنع الحدث الذي ردد صداه الزمان والأمكنة.
الدور الزينبي
عند استشهاد الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وصحبه الأبرار سلام الله عليهم، بـدأ دور زيـنب عليها السلام وهو دور خطير ومهمة شاقة، ويمكننا رصد مهمتين أساسيتين تنهض بهما عقيلة الطـالبيين:
المـهمة الأولى
تـحريك روح الثورة والتمرد في نفوس المجتمع المسلم، وهذا ما سعت إليه السيدة زينب في الكوفة، فـمن المـعلوم أن المـجتمع الكوفي لا يحتاج إلى تعريف بالحسين عليه السلام وأهدافه، ولم ينقصهم الوعي بحقيقة الحكم الأموي، وإنما كانوا يعيشون خللا نفسيا تمثل بانعدام الإرادة وعدم الاستعداد للتضحية، وكان هذا المجتمع بحاجة إلى هزة نفسية لمعالجة هذا الخـلل فكانت الدماء الطهر على أرض الطفوف، فيما تولت العقيلة تفعيل هذه الدماء في نفوس المـجتمع الكوفي، ولذلك اعتمدت في خطابها إلى المجتمع الكوفي اللغـة المـشحونة عـاطفيا من أجل تأجيج روح الندم لديهم لخذلانهم الحـسين ومـحاولة التكفير عن الشعور بالإثم عبر التمرد والثورة والتضحية بهذه النفوس التي عزت عـن نـصرة الحسين عليه السلام، ولذلك خاطبتهم العقيلة قائلة: «يا أهل الكوفة! ويا أهـل الخـتل، والخذل والغدر! أتبكون؟ فلا رقأت الدمعة ولا هدأت الرنـة، إنـما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا…».
ونلاحظ هنا اسـتخدام مـوفق للمثل القرآني الذي يعمق روح الندم لدى هؤلاء المـخاطبين، وتمضي مخاطبة المجتمع الكـوفي «ألا سـاء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط اللّه عليكم وفي العذاب أنتم خالدون، أتبكون وتنتحبون إي واللّه فابكوا كثيرا واضحكوا قليلا، فلقد ذهـبتم بـعارها وشنارها، و لن ترحضوها بغسل بعدها أبـدا وأنّى تـرحضون قتل سليل خـاتم الأنـبياء وسيد شباب أهل الجـنة ومـلاذ خيرتكم ومفزع نازلتكم،… أتدرون أي كبد لرسول اللّه فريتم، وأي دم له سفكتم، وأي كريمة له أبرزتم، وأي حريم له أصبتم؟ وأي حـرمة له انتهكتم؟ لقد جـئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه، وتـنشق الأرض، وتخر الجـبال هـدّا…».
المـهمة الثانية وهي المهمة الفكرية
لعلّ أحد الأهداف المهمة لثورة الإمام الحسين عليه السلام هو الهدف الفكري المتمثل بتصحيح الخلل الفكري الذي يعيشه المسلمون آنذاك حيث كانوا لا يميزون بين الحاكم الإسلامي والحاكم المنحرف عن الإسلام وإن كان يحكم باسمه، ولذلك يدينون بالطاعة للجميع دون تمييز ويرون ذلك تطبيقا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}.(النساء/59)
وقد مكن هذا الخلل الحكام المنحرفين من الحكم بـاسم الإسلام و محاربة الإسلام بـاسمه، وكان يمكن لهذا الخلل – لولا ثورة الحسين عليه السلام – أن يقضي على الإسلام كله حيث سيشوهه الحكام مع تعاقب السنين، ولكن ثورة الحسين عليه السلام استطاعت أن تضع حدا فاصلا بين الإسلام والحكومات المنحرفة، وقـد ركز خطاب أهل بيت الرسالة الذين أخذوا أسارى إلى الشام من أجل تحقيق هذا الهدف من خلال تعريف المجتمع الموجه إليه الخطاب – وهو المجتمع الشامي هنا – على مكانة الحسين و التعريف بـه مـن أجل كشف الحقيقة التي أراد يزيد - وكل حاكم منحرف – طمسها، فنرى زينب عليها السلام تخاطب يزيدا في مجلسه قائلة: «أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك و إماءك، وسوقك بنات رسول اللّه سبايا، قـد هـتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني و الشريف، ليس معهن مـن حـماتهن حمي ولا من رجالهن ولي، وكيف يرتجى مـراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء».
وتمضي قائلة: «ولتردن على رسول اللّه صلى الله عليه وآله بما تحملت من سفك دماء ذريته وانتهكت من حـرمته في عترته ولحمته، حيث يجمع اللّه شـملهم، ويلم شعثهم ويأخذ بحقهم، {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}».
«فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فو اللّه لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهـل رأيك إلا فند وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادى المنادي ألا لعنة اللّه على الظالمين».
تأملات في خطاب السيدة زينب عليها السلام
يكاد الباحثون في ميدان الإعلام يجمعون على أن عناصر العملية الإعلامية هي: المرسل للرسالة الإعـلامية، والرسـالة الإعلامية، والوسيلة التي تقوم بنقل هذه الرسالة، والمستقبل للرسالة الإعلامية، وأخيرا الاستجابة للرسالة الإعلامية.
ويرون أن هدف الرسالة الإعلامية هو (المستقبل) من أجل إحداث (التأثير) أو (الاستجابة) المقصودة، ولذلك لا بد من معرفة هـذا (المـستقبل) ودراسـة شؤونه وحاجاته وهمومه ومستواه من أجل مخاطبته بشكل ناجح، وهذا ما يهتم به علم النفس الاجتماعي.
وعـندما نعود إلى خطاب العقيلة ونتأملها على ضوء العلم الحديث، نجدها قد تمتعت بعناصر النجاح، أو أنـها حـققت الشـروط المطلوب توافرها في عناصر العملية الإعلامية الناجحة فنجد أن هناك اختلافا في مضمون الخطاب الموجه إلى المجتمع الكوفي عن ذاك الموجه إلى المجتمع الشامي لاختلاف المجتمعين، أو لاختلاف (مستقبل الرسالة الإعلامية)، فالمجتمع الشـامي يجهل هؤلاء الأسارى و يرى فيهم خوارج حتى أن أحدهم يطلب من يزيد جارية من هؤلاء السبايا و يرى في قتل الحسين يوم ظفر وانتصار ليزيد، حتى أن الصحابي سهل بن سعد الساعدي قال عندما رأى مظاهر الشام هـل إن لأهل الشام عيداً لا نعرفه؟ وهذه نتائج طبيعية للإعلام الأموي الذي تعرض له هذا المجتمع، ولذلك نرى في خطاب زينب عليها السلام كما في خطاب السجاد عليه السلام تركيزاً على التعريف بهم و مدى ارتباطهم بالرسول صلى الله عليه وآله الأكرم وفضحاً ليزيد وكيف إنه ابن الطلقاء الذين واصلوا حربهم للرسالة حتى فتح مكة فأطلقهم النبي صلى الله عليه وآله.
أما المجتمع الكوفي فلا يحتاج إلى ما يحتاجه المجتمع الشامي، ولذلك تركز خطاب العقيلة لأهل الكوفة على موضوع خذلانهم للإمـام الحسين عليه السلام، وكيف أنهم انتكسوا في منتصف الطريق كالتي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا.
كما أن التأثير الذي أرادت إحداثه الحوراء عند أهل الشام يختلف عنه عند أهل الكوفة، فالمجتمع الشامي لم ترد زينب تحريكه وإنما أرادت توعيته من أجل فضح الخطة الإعلامية ليزيد التي شوهت الثورة الحسينية، أما المجتمع الكوفي فأرادت العقيلة تحريكه ولذلك اعتمدت شحنه عاطفيا، وقد تحقق لها ما أرادت.
يقول أحد الرواة واصفا أهل الكوفة بعد خطبة السيدة زينب: (فو الله لقد رأيت الناس يومئذ حيارى، كأنهم سكارى، يبكون ويحزنون ويتفجعون ويتأسفون وقد وضعوا أيديهم في أفواههم).
قال: (ونظرت إلى شيخ من أهل الكوفة كان واقفا إلى جنبي، وقد بكى حتى اخضلت لحيته بدموعه وهو يقول: صدقت بأبي وأمي، كهولكم خير الكهول، وشبانكم خير الشبان ونساؤكم خير النسوان، ونسلكم خير نسل لا يخزي ويبزي).
لقد أدت العقيلة رسالتها على أكمل وجه لا في الكوفة والشام فحسب وإنما بعد رجوعها إلى مدينة مجدّها حتى أنها أصبحت مصدر خطر كبير على السلطات الأموية مما دفع الأخيرة إلى نفيها من بلدها – ولعلها أول امرأة تنفى لأسباب سياسية – ووضعها على مقربة من عاصمة الحكم الأموي لتكون تحت الرقابة المركزية المشددة حتى مضت آخر سني حياتها الشريفة لتدفن في جوار عاصمة الجور الأموي.
الحوراء أسوة وعـبرة
ليس باستطاعة أية امرأة أن تقوم بالدور الذي قامت به الحوراء، والمهمة التي أوكلها إليها الإمام الحسين عليه السلام، فالحوراء كانت تمتلك من المؤهلات والاعداد الفكري والنفسي من أجل أن تنهض بالعبء الرسالي الكبير، ولذلك قيّمها الإمام السجاد عليه السلام بقوله: «إن عمتي زينب عالمة غير معلمة وفقيهة غير مفقهة».
وكما وصفها الرواة بأنها كانت تحكي عن لسان أبيها أمير المؤمنين، كما نقل عنها الرواة أنها لم تترك صلاة الليل حتى في ليلة الحادي عشر من المحرم.
وزينب من علمها وبصيرتها وصبرها وإيمانها أين منها نساء اليوم؟؟ وأين منها الذين يرون أن مكانة المرأة أن تحبس في بيتها ولا تخرج إلا مرتين مرة لبيت الزوجية والثانية لقبرها؟؟
ولئن كانت زينب عطاء الإسلام فأين المتباكون على المرأة وحقوقها خوفا عليها من أن يقيدها الإسلام بقيوده؟؟
الحوراء عطاء الإسلام فما هو عطاء أنصار المرأة المزيفين؟
* بقلم: الدكتورة زينب الركابي
جازاك الله خير الجزاء وجعلك وايانا مع السيدة زينب عليها السلام انه قريب مجيب بحقه الحوراء
اللهم صل على محمد وال محمد.. بارك الله في اعماركم ونياتكم.. شكرا جزيلا